بعيداً عن خط المواجهة المتعثّر إلى حد كبير في ساحة المعركة، تخوض روسيا وأوكرانيا حرباً موازية شرسة على أصول الطاقة الخاصة بكل منهما، وهو ما قد يكون أكثر فعالية في إجبارهما على الجلوس إلى طاولة المفاوضات من أي موجة من الدبلوماسية الدولية.
وبرز هذا الصراع في الأيام الأخيرة مع إعلان الولايات المتحدة وأوروبا فرض عقوبات جديدة شاملة على صناعة النفط الروسية، شريان الحياة لآلية الكرملين الحربية.
وتمثّل العقوبات المزدوجة، الأوروبية الأمريكية، أقوى ضغط منذ عودة الرئيس دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، وقد تُسرّع إمكانية العودة إلى مسار التفاوض إذا "تألّمت" روسيا التي لا تزال تعطي مؤشرات على الصمود، وهو ما قد يجعل الأشهر القادمة حاسمة لمستقبل الحرب.
وتعمل أوكرانيا على حشد تحرك دولي ضد اقتصاد الطاقة الروسي، بينما تفرض ما تسميه "عقوباتها بعيدة المدى": غارات بطائرات مسيرة ألحقت أضراراً بعشرات المصافي الروسية .
وهدف روسيا هو البنية التحتية للكهرباء والغاز الأوكرانية، التي هاجمتها مراراً في حملة مدمرة مع اقتراب فصل الشتاء. ويرى الخبراء أن الهدف هو شلّ قدرة أوكرانيا على العمل، واستنزاف إرادة شعبها في تحمل الحرب، بحسب تقرير لصحيفة "نيويورك تايمز".
ومن غير المؤكد ما إذا كان أي من الجانبين سيستسلم تحت الضغط الاقتصادي، لكن المحللين يرون أن كلاً منهما ينظر إلى هجماته على قطاع الطاقة كرافعة استراتيجية لكسر الجمود في صراع مستمر منذ ما يقرب من 4 سنوات، وظلّ حتى الآن بمنأى عن جهود إدارة ترامب لتحقيق السلام.
وعندما تصاعدت تلك الجهود مؤخراً، ارتكزت محادثات إنهاء الحرب على حقائق ساحة المعركة، ومع تقدّم قواتها في السيطرة على الأراضي، وإن كان ببطء شديد وبتكلفة باهظة، ضغطت موسكو من أجل التوصل إلى تسوية تلزم كييف بالتنازل عن جميع الأراضي التي خسرتها وبعض ما لا تزال تحتفظ به.
ومن المتوقع أن تواصل روسيا تقدمها في ساحة المعركة، لكن مع تباطؤ وتيرة القتال البري في الشتاء، وقلة الغطاء النباتي الذي يحد من قدرة القوات على الاختباء، والبرد القارس الذي يُرهق اللوجستيات، من المرجح أن تظل معركة الطاقة الجبهة الأكثر نشاطاً في الأشهر المقبلة.
ووفق بالاز جارابيك، الدبلوماسي السابق للاتحاد الأوروبي في كييف والذي يعمل الآن في شركة آر بوليتيك للتحليل السياسي، فإن العقوبات الأمريكية الجديدة على أكبر شركتين نفطيتين في موسكو: "لوك أويل" و"روسنفت"، كانت على الأرجح رداً على الحملة الروسية ضد شبكة الكهرباء في أوكرانيا.
وهذه الإجراءات، التي تمثل أولى الخطوات العقابية الكبرى التي اتخذها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ضد روسيا بعد أشهر من التهديدات، هي وسيلة للضغط على الكرملين لوقف الضربات والنظر في وقف محدود لإطلاق النار في أهداف الطاقة.
لكن خبراء يرون أن روسيا قد تختار تحمل العقوبات دون تغيير أهدافها الحربية، وقد أثبتت موسكو مراراً قدرتها على تجاوز العقوبات الغربية بالاعتماد على شركاء تجاريين آخرين، مثل الصين والهند، واستغلال الثغرات والقنوات الخفية للتهرب من القيود.
وذلك، يتجاوز قرار ترامب فرض العقوبات والإجراءات الدولية السابقة، إذ يستهدف جوهر ثروة روسيا، ألا وهو صناعة النفط التي تُدرّ مئات الملايين من الدولارات يومياً. تعزل هذه الخطوة الشركات عن جزء كبير من النظام المالي العالمي، وتأتي مصحوبة بتهديد بفرض عقوبات على من يستمرون في شراء النفط الروسي.
ويقدر المحللون أن شركتي "روسنفت" و"لوك أويل" تمثلان نحو نصف إنتاج روسيا من النفط الخام، ويقولون إن إدراجهما على القائمة السوداء قد يدفع المشترين الأساسيين مثل الهند إلى تقليص وارداتهم.
وفي حالة حرمان روسيا من هذه الأموال، فقد يصبح من الصعب عليها استبدال المعدات التي فقدت في ساحة المعركة ومواصلة دفع مبالغ كبيرة للمجندين في الجيش.
وفي هذا السياق، كتب جاك واتلينغ، الباحث في المعهد الملكي للخدمات المتحدة في بريطانيا، في صيف هذا العام في تحليل يحدد العوامل التي قد تدفع روسيا إلى التفاوض: "من حيث المعدات والأفراد، فإن مفتاح قدرة روسيا على إعادة بناء القوة القتالية هو المال، الذي يتم توليده بشكل كبير من خلال قطاع النفط والغاز".
في إشارة إلى تزايد الضغوط الاقتصادية، من المتوقع أن ينخفض الإنفاق العسكري الروسي العام المقبل، وذلك لأول مرة منذ بدء الحرب. وتوقع واتلينغ أن تبدأ روسيا بمواجهة صعوبات في الحفاظ على مجهودها الحربي مع حلول العام المقبل.
يوم الخميس، أقرّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بأنّ العقوبات ستضرّ بالاقتصاد، لكنه أصرّ على أنها لن تُغيّر حسابات الكرملين في الحرب، ردّاً على ذلك، أشار ترامب إلى أنّ زعيم الكرملين قد يشعر بشعور مختلف بعد ستة أشهر، حالما تبدأ العقوبات بإحداث تأثيرها. وقال للصحفيين: "دعونا نرى كيف ستسير الأمور".
بالإضافة إلى التدابير الاقتصادية، أدت الضربات الأوكرانية بعيدة المدى على مصافي النفط إلى تدمير أو إتلاف حوالي 20% من طاقة التكرير الروسية بحلول الشهر الماضي. وقد تسبب ذلك في نقص حاد في البنزين في عدة مناطق، في الوقت الذي تسعى فيه أوكرانيا إلى جلب معاناة الحرب إلى المواطنين الروس العاديين.
كما استهدفت أوكرانيا أيضًا المجمع الصناعي العسكري الروسي للحد من قدرة موسكو على شن هجمات. يوم الثلاثاء، أعلن الجيش الأوكراني أنه استخدم صواريخ ستورم شادو غربية الصنع بعيدة المدى لضرب مصنع لإنتاج المتفجرات ووقود الصواريخ. تعتمد هذه الصواريخ على معلومات من الأقمار الصناعية الأمريكية، مما يشير إلى أن الولايات المتحدة سمحت باستخدامها في روسيا.
لكن بينما تهاجم أوكرانيا روسيا، عليها أيضاً أن تتحمّل حملة موسكو الهجومية بعيدة المدى على البنية التحتية للطاقة في أوكرانيا. والهدف، كما يقول الخبراء، هو إغراق السكان في البرد والظلام، وتقويض معنوياتهم وتعطيل النشاط الاقتصادي.
خلال الأسبوع الماضي تقريباً، بدأت أوكرانيا بفرض انقطاعات طارئة للتيار الكهربائي في جميع أنحاء البلاد لمواجهة نقص الكهرباء الناجم عن هجمات على محطات الطاقة ومحطات التوزيع الفرعية.
وواجهت مدينة تشيرنيهيف، التي يبلغ عدد سكانها 270 ألف نسمة، انقطاعاتٍ كاملةً للتيار الكهربائي، مما أدى إلى توقف الحياة، وتوقف المواصلات العامة، وتعطيل إمدادات المياه بسبب انقطاع الكهرباء عن محطات الضخ.