استيقظت العاصمة واشنطن، اليوم، على قصة لم تكن من تقاليدها، حيث أعلنت صحيفة "واشنطن بوست" تخليها عن تقليد سياسي وإعلامي رسمته لنفسها منذ ستينيات القرن الماضي، والذي يقضي عادة بأن تكون الأسابيع الأخيرة من السباق الرئاسي موعدًا لإعلان الصحيفة موقفها من دعم أحد المرشحين من الحزبين الديمقراطي والجمهوري لانتخابات الرئاسة.
الصحيفة أعلنت أنها لن تؤيد أيًا من المرشحين بعد أن كانت في طريقها لإعلان دعمها المرشحة الديمقراطية كامالا هاريس على حساب المرشح الجمهوري دونالد ترامب، لكن قرار الساعة الأخيرة غيَّر الموقف، وأدى إلى سلسلة من الأحداث المتلاحقة.
المرة الثانية
أول القصة بدأت من لحظة إعلان الصحيفة على لسان مديرها التنفيذي ويليام لويس أنها لن تؤيد أيًا من المرشحين في هذه الانتخابات، وهي المرة الثانية في تاريخها الطويل التي تفعل فيه ذلك، وذلك بعد قرارها المماثل، العام 1988، عندما رفضت أن تؤيد أيًا من المرشحين الجمهوري وقتها الرئيس الراحل جورج بوش الأب في مواجهة منافسه الديمقراطي "مايكل دوكاكيس".
وقال المدير التنفيذي للصحيفة: "ندرك أن هذا القرار سيتم تفسيره بعدة طرق بما في ذلك الدعم الضمني لمرشح ما أو إدانة مرشح آخر أو التخلي عن مسؤوليتنا، ولكننا نرى أنه قرار يتسق مع مسؤوليتنا التي لطالما دافعنا عنها في هذه الصحيفة"، مضيفًا "أن ما يأمله الناس من قياداتهم هو الشخصية والشجاعة في خدمة القيم الأمريكية، وتقديس حكم القانون، واحترام الحريات الإنسانية بجميع أوجهها".
مسؤول الصحيفة أوضح أنها لن تدعم أيًا من المرشحين، وأنها بهذا القرار تعود إلى جذورها، وأنها لن تؤيد مرشحًا رئاسيًا في المستقبل، وذلك في إشارة إلى ذلك القرار الذي كانت الصحيفة قد اتخذته، العام 1960 من القرن الماضي، بإعلانها الحياد في السباقات الانتخابية، لكن هذا الأمر تغيّر لاحقًا إدراكًا من مموليها ومحرريها بأنها يجب أن تتخذ موقفًا يتماشى مع تقاليد المؤسسات الإعلامية العريقة والكبيرة في الولايات المتحدة والذي لا يزال معمولاً به حتى اليوم بإعلان الدعم لمرشح محدد في الانتخابات تقديرًا منها لرؤيته السياسية، وخدمة برامجه للمصلحة العامة للأمريكيين، إضافة إلى سلامة سجله الشخصي وأهليته القيادية، لكنه في كل الحالات هو ليس قرارًا ملزمًا للناخبين، ولا يشكل تدخلاً في اختياراتهم إلا أنه يعطي تقديرًا لموقف هيئة تحرير الصحيفة بما لها من ثقل معنوي لدى القراء والمتابعين من عامة الأمريكيين".
هذا البيان من قبل إدارة الصحيفة لم يُرح الموظفين داخلها، حيث تتابعت الأحداث بعد ذلك بإعلان رئيس تحرير الصحيفة استقالته من مهامه التحريرية، وكذلك اعتزام 40 من موظفيها الاستقالة في وقت لاحق ،إضافة إلى ظهور علامات مقاطعة واسعة من قبل قرّائها المشتركين بإعلان 2000 من هؤلاء قطع اشتراكاتهم بصورة فورية من النسختين الورقية والإلكترونية للصحيفة.
استغراب
أما في العاصمة واشنطن فالأمر يتعلق بواحدة من وسائل الإعلام الثقيلة التقليدية التي لا تزال تحظى بمكانة خاصة لدى مسؤولي الحكومة الفيدرالية، ولدى أعضاء المجلسين في الكونغرس، لذلك فإن هذه الخطوة أثارت الكثير من الاستغراب من قبل المؤسسة العريقة في العاصمة الفيدرالية، خاصة أنها تأتي قبل 10 أيام من موعد التصويت في الانتخابات العامة.
أكثر التفاسير تداولاً يتعلق بأن مالك الصحيفة في الوقت الحاضر هو مالك موقع أمازون الملياردير "جيف بيزوس" وهو واحد من الأثرياء الكبار الذين باتوا يمارسون نفوذًا ظاهرًا ومتزايدًا في مسار الانتخابات الرئاسية لهذا العام، وفي نموذج إيلون ماسك ما يثير مزيدًا من القلق بين الأمريكيين.
ويقول البعض ربما يظهر أن القرار ممارسة لاستقلالية تمتلكها القيادة التحريرية للصحيفة، لكن العلاقة بين هذا القرار ونفوذ المال تبدو واضحة في هذه القصة يقول كثير من الإعلاميين وهم يشيرون إلى ظاهرة التحالفات القائمة، حاليًا، بين الأثرياء الكبار في البلاد والمرشح الجمهوري دونالد ترامب وسعي هؤلاء للتأثير على التقاليد التي تحكم الممارسات الإعلامية والسياسية في العاصمة واشنطن.
من جانبهم يقول موظفون لدى الصحيفة إن المسألة تذهب إلى أبعد من التخلي عن واحد من التقاليد الكبيرة لأعرق مؤسسة إعلامية في واشنطن، وإنما ترتبط بحالة من الشكوك باتت تخيط بالمناخ السياسي السايد في البلاد، حاليًا، عندما تنتهي صحيفة بهذه العراقة والنفوذ إلى اتخاذ قرار مماثل وسط حالة من الانقسام الحادة في البلاد، وهو ما كان يفترض فيه أن يضيف مسؤولية مهنية وأخلاقية على كبريات العناوين الإعلامية التي تساهم في صناعة الرأي العام الأمريكي.