منذ وصوله إلى البيت الأبيض، قدّم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب نفسه بوصفه "صانع الصفقات" القادر على كسر الجمود في ملفات عالقة منذ عقود، معتمدًا على شخصيات غير تقليدية أقرب إلى عالم الأعمال منها إلى عالم الدبلوماسية.
وفي هذا السياق لمع اسم ستيف ويتكوف، رجل العقارات الذي عهد إليه ترامب بملف حساس يتعلق بجهود السلام، إلى جانب جاريد كوشنر في محاولات التهدئة في غزة.
ورغم الانتقادات الواسعة التي طالت تكليف رجلين بلا خبرة سياسية بإدارة محادثات تحمل تعقيدات تاريخية، نجح ويتكوف وكوشنر في إقرار وقف لإطلاق النار في القطاع، ولو أنه لم ينهِ القتال بالكامل ولم يحقق تقدّمًا حاسمًا نحو تسوية طويلة الأمد، بحسب صحيفة "تليغراف".
لكن تسريب مكالمة هاتفية بين ويتكوف ويوري أوشاكوف، كبير مساعدي الرئيس الروسي فلاديمير بوتن، كشف عن الثمن السياسي لاختيارات ترامب، وأظهر مدى هشاشة المقاربة "غير التقليدية" التي تبناها البيت الأبيض في مسار التفاوض.
مكالمة مسربة وإحراج دبلوماسي
التسجيل المسرّب، الذي استعرضته ونشرته وكالة ""بلومبرج""، يُظهر بوضوح أن ويتكوف يقدّم نصائح مباشرة لأوشاكوف حول كيفية التعامل مع ترامب، بما في ذلك إطراء الرئيس الأمريكي وتقديم مقترحات بشأن إعادة صياغة الدور الروسي في الحرب على أوكرانيا.
وكان الأكثر إثارة للجدل إبلاغ ويتكوف المسؤول الروسي بأنه نقل لترامب قناعته بأن "روسيا لطالما رغبت في اتفاق سلام"، في تجاهل لواقع الغزو الروسي غير القانوني لأوكرانيا منذ فبراير/شباط 2022.
كما أثار هذا الطرح تساؤلات حول مدى سذاجة المبعوث الأمريكي أو رغبته في استمالة الجانب الروسي بأي شكل.
وأكثر ما يثير القلق هو إشارة ويتكوف خلال المكالمة إلى أن اتصالًا بين بوتن وترامب قبل اجتماع الأخير بزيلينسكي قد يكون "مفيدا".
ورغم أن موقف ترامب من بوتن بدا أكثر تشددًا في تلك الفترة، فإن نتيجة المكالمة لم تلبث أن ظهرت: إعلان ترامب نيته لقاء بوتن في بودابست، لقاء لم يتم، إلى جانب تراجعه عن خطة لتزويد أوكرانيا بصواريخ توماهوك.
تداعيات سياسية وخفايا التأثير الروسي
المكالمة المسربة لا تطرح فقط أسئلة حول أداء ويتكوف، بل تكشف أيضًا كيفية تعاطي موسكو مع القنوات الأمريكية الجديدة.
تسريب الاتصال الثاني الذي حصلت عليه ""بلومبرج"" يُظهر جانبًا روسيًا يرى في ضعف الخبرة فرصة "للتحايل"، ونقل رسائل إلى واشنطن دون تقديم تنازلات فعلية.
ولا يُعرف ما إذا كان ويتكوف قد استخدم الأسلوب نفسه مع المسؤولين الأوكرانيين، أو ما إذا كان قدّم لهم "نصائح" حول كيفية التعامل مع ترامب، لكن ما هو واضح أن تسريب مكالمته مع مستشار بوتن يثير مجددًا الشكوك حول مسار محادثات السلام، ويضع علامات استفهام حول إدراكه لطبيعة الروس وطموحاتهم العسكرية.
توقيت التسريب بدوره يثير علامات استفهام: هل جاء من الجانب الروسي الذي يريد عرقلة محادثات السلام؟ أم من أوكرانيا الساعية لمواجهة أي تقارب أمريكي–روسي؟ أم من داخل الإدارة الأمريكية نفسها، حيث تكثر الخلافات والتجاذبات؟ تعدد احتمالات التسريب يعكس هشاشة الفريق الدبلوماسي لترامب، وحدود سياسة الاعتماد على رجال الأعمال بدلاً من الدبلوماسيين المحترفين.
تكشف حادثة تسريب مكالمة ويتكوف أن استراتيجية ترامب القائمة على "الصفقات" بديلاً عن الدبلوماسية التقليدية تتعرض لاختبار قاسٍ.
فبين نقص الخبرة، وسوء تقدير موقع روسيا في الحرب، والتداخل المتزايد بين القنوات الرسمية وغير الرسمية، أصبحت عملية السلام—سواء في غزة أو أوكرانيا—رهينة مسارات غير منضبطة.
وتشير تفاصيل التسريب إلى أن قدرة موسكو على التأثير عبر ثغرات الفريق الأمريكي باتت أكبر من أي وقت مضى، فيما لا تزال نتائج مساعي ويتكوف بعيدة عن تحقيق أي خرق ملموس.
أما بالنسبة لواشنطن، فإن التسريب يسلّط الضوء على ضرورة مراجعة هيكل المفاوضات وعودة الخبرة المهنية إلى قلب السياسة الخارجية.
