أكد تقرير نشرته صحيفة "بوليتيكو" أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ربط بقاءه السياسي واستمراره في السلطة بمواصلة حالة الصراع مع الغرب، ما يجعل أي تسوية سلمية أو اتفاق سلام مع أوكرانيا أمراً بعيد المنال.
ففي الأسبوع الماضي، أرسل بوتين ما لا يقل عن 19 طائرة مسيّرة إلى المجال الجوي البولندي، ورغم اعتراض مقاتلات تابعة للناتو لبعضها، فإن الرسالة، وفقًا لـ"بوليتيكو"، كانت واضحة، حيث إن "روسيا ليست بصدد التراجع أو التهدئة، بل على العكس، عازمة على إبقاء التوتر مشتعلاً مع الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين".
وجاء هذا التوغّل بعد سلسلة من الضربات الجوية على أوكرانيا، أسفرت عن مقتل عشرات المدنيين، وتدمير مبانٍ تضم بعثات دبلوماسية أوروبية وبريطانية، فضلاً عن استهداف مبنى حكومي وسط كييف للمرة الأولى منذ اندلاع الحرب.
وتوضح "بوليتيكو" أن بوتين بات يُقدّم نفسه، منذ سنوات، بصفته زعيمًا في زمن الحرب، وهو ما يمنحه شرعية سياسية داخلية يصعب التخلّي عنها، ويُعلّق نيكولاي بتروف، المحلل البارز في "مركز الإستراتيجيات الأوراسية الجديدة" في لندن، قائلاً: "لا يمكن لبوتين أن يعود إلى وضعية رئيس في زمن السلم؛ ذلك سيكون بمثابة خفض لمكانته السياسية" وفق تعبيره.
ويشير التقرير إلى أن الحرب، التي دخلت عامها الرابع، أثقلت كاهل روسيا بخسائر بشرية تُقدَّر بمليون جندي بين قتيل وجريح، إلى جانب أضرار جسيمة لحقت بالاقتصاد الروسي، الذي يقترب من حافة الركود.
ومع ذلك، يعتقد الكرملين أن الانسحاب أو القبول بتسوية قد يفتح الباب أمام تحديات داخلية أكبر، خاصة من قبل التيار القومي المتشدد، الذي أصبح القوة الأكثر صخباً بعد تفكيك المعارضة الليبرالية.
وبحسب "بوليتيكو"، لم يعد الصراع مقتصراً على الأراضي الأوكرانية، بل باتت روسيا توجه تحركاتها بشكل مباشر نحو الناتو، سواء عبر الطائرات المسيّرة التي تخترق أجواء بولندا انطلاقًا من بيلاروسيا، أو من خلال نقل الصناعات الإستراتيجية بعيداً عن الحدود الغربية، أو عبر المناورات العسكرية المشتركة مع بيلاروسيا، والتي أُجريت على مقربة من الحدود البولندية.
ويلفت التقرير إلى مقال كتبه ديمتري مدفيديف، نائب رئيس مجلس الأمن الروسي، هاجم فيه فنلندا، مهددًا بـ"زوال دولتها" إذا دخلت في مواجهة مع موسكو. ويؤكد محللون لـ"بوليتيكو" أن هذا الخطاب يعكس النمط نفسه الذي سبق الغزو الروسي لأوكرانيا العام 2022، عندما وظّفت موسكو خطاب التهديد والتخويف كتمهيد لعمليات عسكرية أوسع.
وتشير الصحيفة إلى أن بوتين يراهن على تردد الولايات المتحدة وانقسام أوروبا، فعلى الرغم من اللقاء الأخير بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وبوتين في ألاسكا، الذي روّج له كخطوة نحو وقف إطلاق النار، فقد قلّل ترامب من خطورة التوغّل الروسي في بولندا، قائلاً إنه "قد يكون مجرد خطأ".
وبحسب "بوليتيكو", فإن مثل هذه التصريحات تمنح الكرملين مساحة أوسع لمواصلة الضغط على الناتو.
وفق ما نقلته الصحيفة عن خبراء عسكريين، تعتمد روسيا سياسة ممنهجة تقوم على "التحرّش والاختبار"، أي تنفيذ عمليات محدودة وصغيرة الحجم داخل أجواء أو أراضي دول الناتو، بهدف اختبار مدى جدية الحلف في تفعيل مبدأ الدفاع الجماعي.
من جانبها، تنفي موسكو وجود نية لاستهداف بولندا، وتُرجع ما حدث إلى "تشويش إلكتروني" أو "أخطاء تقنية". وبيلاروسيا تردّد الرواية ذاتها. لكن محللين يرون أن هذا الغموض مقصود، إذ يسمح لبوتين بالتحرك على حافة التصعيد دون الانخراط، رسمياً، في مواجهة مباشرة مع الحلف.
وبهذا، تبقى الأفعال قابلة للتفسير كـ"خطأ عرضي" أو "استفزاز متعمد"، وهي لعبة يتقنها بوتين، وفق تعبير "بوليتيكو".
وتخلُص الصحيفة إلى أن المواجهة بين روسيا والغرب ستبقى مستمرة، حتى لو توقفت الحرب في أوكرانيا في وقت لاحق. فبالنسبة لبوتين، لم يعد استمرار الصراع خياراً سياسياً بل شرطاً لبقاء نظامه.
وترى "بوليتيكو" أن أكبر التحديات التي تواجه الولايات المتحدة وحلفاءها الأوروبيين لا تتمثل فقط في تقديم الدعم العسكري لأوكرانيا، بل أيضاً في الحفاظ على مصداقية الناتو كحلف قادر على الدفاع عن أعضائه.
وفي ظل إستراتيجية الكرملين القائمة على التصعيد المتدرج والتجريب المستمر لمدى صلابة الغرب، يبقى السؤال المطروح: هل سيتمكن الحلف من الردع فعلاً، أم سيظهر كـ"نمر بلا أنياب" كما يأمل بوتين؟