كشف تقريرٌ أمريكي حديث أن الهند، برزت كلاعبٍ غير متوقَّعٍ في قلب مشهدٍ هيمنت عليه التطورات في جبهات القتال في أوكرانيا، ولم يكُن ظهورها مفاجئًا بقدر ما كان صادمًا للكثيرين؛ إذ استطاعت تحويل المأساة الأوكرانية إلى فرصةٍ نادرة لإعادة تموضُعِها على خريطة الطاقة العالمية، وربَّما على خريطة النفوذ السياسي أيضًا.
وبحسب التقرير الذي نشره "مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية"، فإن الأرقام لا تكذب؛ فقد ارتفعت واردات الهند من النفط الروسي إلى مستوياتٍ غير مسبوقة، حتى أصبحت في بعض الأشهر أكبر مشترٍ للخام من موسكو، هذا التحوّل لم يمنح نيودلهي فقط ميزةً اقتصادية فحسب، بل عزَّز مكانتها كقوةٍ عابرةٍ للمحاور؛ فهي لم تنضمّ إلى العقوبات الغربية، ولم تُدِر ظهرها لشركائها الأوروبيين، بل حافظت على موقعها كـ"وسيطٍ براغماتي" بين عالمَين متصارعَين.
كما أن نيودلهي منذ اندلاع الحرب، دخلت في لعبةٍ دقيقة، لا يُمكن وصفها بالبراعة الدبلوماسية فحسب، بل أيضًا بالبراغماتية الباردة؛ ففي حين انشغل الغرب بتقييد صادرات النفط الروسية ومعاقبة موسكو، وجدت الهند نفسها أمام بحرٍ من الخام الروسي الرخيص، لم يكُن ذلك مجرِّد تجارةٍ تقليدية، بل صفقةً تاريخية تتجاوز الحسابات المالية إلى إعادة صياغة موازين القوى.
بحسب ما يُؤكِّده مسؤولون في نيودلهي، فإن سياسة الهند في شراء النفط الروسي لم تكُن مجرد صفقةٍ اقتصادية، بل خطوة ساهمت – من وجهة نظرهم – في منع حدوث صدمةٍ عالمية في أسعار الطاقة؛ ففي العام 2023، وأثناء زيارته إلى لندن، شدد وزير الخارجية الهندي سوبراهمانيام جايشانكار على أن لجوء بلاده إلى الخام الروسي، حال دون منافسةٍ إضافية مع أوروبا على الموردين التقليديين، ولو حدث العكس – بحسب الوزير – لكانت أسعار النفط ارتفعت بشكلٍ جنوني، لتنعكس سلبيًا على اقتصادات الهند، ومعظم الاقتصادات الغربية.
جايشانكار لم يكتفِ بالدفاع، بل أضاف بنبرةٍ لا تخلو من الثقة: "لقد خفَّفنا بالفعل من ضغوط أسواق النفط والغاز من خلال سياسات الشراء لدينا، وكنتيجةٍ لذلك، ساعدنا على احتواء التضخم العالمي، وأعتقد أن الوقت قد حان لنسمع كلمة شكر".
هذه الحجة بدت منطقيةً نسبيًا خلال السنوات الأولى من الحرب الأوكرانية، حين كان الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن يسعى إلى تشديد الضغط الاقتصادي على الكرملين، لكن دون المساس بتوازن أسواق الطاقة العالمية، ولذا، ورغم العقوبات الواسعة على موسكو، امتنعت إدارة بايدن حتى يناير 2025 عن فرض قيودٍ صارمة على قطاع الطاقة الروسي؛ خشية حدوث اضطراباتٍ تؤدي إلى ارتفاع أسعار النفط والغاز وما يُرافقه من تضخم داخلي.
وفي هذا السياق، استغلَّت نيودلهي – على ما يبدو – هذه الهواجس الغربية بذكاء؛ فالهند لعبت دور المستفيد المباشر من الخام الروسي الرخيص، لكنها في الوقت نفسه قدّمت نفسها كـ "صمام أمانٍ" يقي العالم من أزمة طاقةٍ خانقة، وهو خطابٌ سياسي منَحَها مساحةً إضافية للمناورة بين واشنطن وموسكو.
وبحسب التقرير الأمريكي، فإن الحبل الدبلوماسي المشدود الذي يسير عليه رئيس الوزراء ناريندرا مودي يعكس دقة التموضع الهندي بين الكتلتين المتنافستين عالميًا؛ فمن جهة، لا تُخفي نيودلهي انزعاجها من تجاهل موسكو الصارخ للمبادئ الأساسية للقانون الدولي، ومن جهةٍ أخرى، يظلُّ موقفها محكومًا بإرثٍ طويل من التقارب مع روسيا ورغبتها في الحفاظ على استقلالٍ إستراتيجي في سياستها الخارجية، بعيدًا عن الارتهان لأيِّ محورٍ عالمي بعينه.
ورغم تصريحات مودي المتكررة حول احترام القواعد الدولية، اختارت الهند أن تظلَّ أقرب إلى الحياد المائل لصالح موسكو، وهو ما ظهر بوضوحٍ في امتناعها عن التصويت على قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة التي أدانت الغزو الروسي لأوكرانيا.
على المستوى الثنائي، لا يتردَّد وزير الخارجية الهندي سوبراهمانيام جايشانكار في وصف العلاقات بين نيودلهي وموسكو بأنها "الثابت الوحيد في السياسة العالمية"، وهذا التعبير يُلخِّص إلى حدٍّ بعيد المزاج السائد داخل أروقة الحكم الهندي، حيث لا يزال كثيرون يرون في السردية الروسية للحرب، جزءًا من معادلةٍ أكبر تتعلَّق بتوسُّع حلف الناتو في فضاء النفوذ الروسي التقليدي.
ولم يقتصر هذا التوازن على الخطاب السياسي، بل تُرجم أيضًا إلى أرقام اقتصادية؛ فالهند سرعان ما تحوَّلت بعد الحرب الروسية الأوكرانية إلى واحدةٍ من أكبر مستوردي النفط الروسي، لتجمع بين الحفاظ على علاقاتها التاريخية بموسكو، والاستفادة العملية من أسعار الطاقة المخفّضة التي فرضتها ظروف الحرب.
ويرى التقرير أن الهند ليست مجرَّد "مستفيدةٍ اقتصادية"؛ فبينما يراها الغرب شريكًا ضروريًا في مواجهة الصين، لا يستطيع أن يُوبِّخَها بشدةٍ على تقاربها مع روسيا، وفي المقابل، تجد موسكو في نيودلهي متنفسًا اقتصاديًا وسياسيًا، بينما تنجح الأخيرة في ترسيخ صورة الدولة المستقلة القادرة على اتخاذ قراراتها وفق مصالحها الخاصة لا وفق ضغوط الآخرين.
الهند لم تعُد مجرَّد لاعبٍ إقليمي، بل باتت نموذجًا لكيفية استغلال الأزمات العالمية لتعزيز المكانة الوطنية، ومع ذلك، يسود اعتقادٌ متزايد بين الخبراء الغربيين بأن العلاقات الروسية-الهندية تشهد "تدهورًا مُدبَّرًا" نتيجةً لتدهور مكانة موسكو الدولية والإقليمية، وتوطُّد علاقاتها مع بكين، منافس نيودلهي في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، وفي الوقت نفسه، عززت الهند تعاونها مع الولايات المتحدة، بما في ذلك في مجالها الدفاعي والأمني الذي لطالما سيطر عليه الروس.