على وقع تحولات جيوسياسية، جاءت قمة نيودلهي لتؤكد أن الهند لم تعد مجرد طرف يتلقى الضغوط، بل قوة آسيوية تستثمر لحظتها التاريخية لإعادة رسم موقعها بين أمريكا وروسيا.
وخلال يومي 4 و 5 ديسمبر/ كانون الأول، بدت العاصمة الهندية وكأنها تفتح بوابة جديدة لتوازنات إقليمية ودولية، بعد زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الأولى للهند منذ اندلاع الحرب الأوكرانية، والتي حملت رسائل حاسمة.
وشدد بوتين خلالها على تأكيد بلاده توفير شحنات متواصلة من الوقود للهند، مؤكدًا أن موسكو ستظل موردًا موثوقًا للطاقة رغم ما يصفه بالضغوط الغربية.
وسخر بوتين من الاعتراضات الأمريكية قائلاً: "إذا كان للولايات المتحدة الحق في شراء وقودنا النووي، لماذا لا تمتلك الهند الامتياز نفسه؟".
ورغم تراجع طفيف في أرقام التجارة، أكد بوتين أن المبادلات الثنائية تسير بسلاسة، بينما يتوسع التعاون في الدفاع والصحة والشحن والعمال.
على الجانب الهندي، قدم رئيس الوزراء ناريندرا مودي تعريفًا متقنًا لتوازن المصالح في آسيا، واصفًا العلاقات الروسية الهندية بأنها ثابتة كنجم القطب.
وخرجت القمة الهندية الروسية بإعلان رؤية 2030 للتعاون الاقتصادي، مع هدف رفع التجارة الثنائية إلى 100 مليار دولار بحلول 2030؛ ما يعكس اندفاعًا واضحًا نحو ترسيخ تعاون طويل الأمد بعيدًا عن تقلّبات السياسة الدولية.
وأكد الخبراء أن الهند تواصل السير على خيط رفيع بين واشنطن وموسكو، وأن قمة نيودلهي تعكس رغبة متبادلة بين مودي وبوتين في صياغة شراكة أكثر مرونة، قادرة على الصمود أمام ضغوط القوى الكبرى وإعادة ضبط التوازنات في آسيا والمحيط الهادئ.
وأضاف الخبراء أن موسكو تعتبر الهند منفذًا اقتصاديًا واستراتيجيًا مهمًا في مرحلة العقوبات، خاصة أن الهند تعتمد على السلاح والطاقة والتكنولوجيا الروسية، مع حرصها في الوقت نفسه على عدم خسارة علاقتها مع أمريكا.
في البداية، يقول أستاذ العلوم السياسية في جامعة موسكو، الدكتور نزار بوش، إن الغرب اعتقد أنه قادر على محاصرة روسيا عبر العقوبات السياسية والاقتصادية وحتى الرياضية، لكن هذا التصور كان خاطئًا لأن روسيا ليست دولة عادية، بل قوة كبرى تمتلك الموارد المالية والسلاح والعلماء، ما يمنحها قدرة مستمرة على التأثير الدولي.
وكشف، في تصريحات خاصة لـ "إرم نيوز"، أن العديد من دول العالم بينها دول أوروبية لم تقطع علاقاتها مع موسكو سياسيًا أو اقتصاديًا، وفي الوقت نفسه تزايد حجم التبادل التجاري بين روسيا والصين وكذلك بين روسيا والهند التي تُعد من أكبر اقتصادات العالم.
وأضاف أن التعاون التقني والصناعي والعسكري توسّع بشكل لافت، إذ تشتري الهند أسلحة متطورة مثل سوخوي 30 وسوخوي 35 وإس 400، وتسعى للحصول على إس 500، إلى جانب مشاريع مشتركة في الصناعات العسكرية.
وأشار أستاذ العلوم السياسية إلى أن زيارة الرئيس فلاديمير بوتين للهند تهدف إلى تعزيز العلاقات الثنائية ورفعها إلى مستويات أعلى، مؤكدًا أن الزيارة تحمل رسائل واضحة للغرب وللولايات المتحدة بأن العالم لم يعد أحادي القطب، وأن قوى صاعدة مثل الصين والهند والبرازيل تمتلك وزنًا اقتصاديًا وسياسيًا متزايدًا.
ورأى أن التعاون الروسي الهندي يقوم على مشتركات أساسية، أهمها الانتماء الجغرافي للقارة الآسيوية وعضوية البلدين في منظمة شنغهاي ومجموعة بريكس.
وأضاف أن الغرب ما زال ينظر إلى الهند وكأنها تحت ما وصفه بـ«القبة البريطانية»، لكن نيودلهي اليوم تعمل بقرار سيادي كامل وتعيد صياغة علاقاتها وفق مصالحها.
وأوضح الدكتور نزار بوش أن حجم التبادل التجاري تخطى 100 مليار دولار، وقد يصل إلى 150 مليار دولار خلال عام أو عام ونصف العام، وأن استخدام العملات الوطنية في التبادل يعزز استقرار العلاقات الاقتصادية ويقوي العملات المحلية.
وأشار إلى أن العلاقات بين البلدين ليست طارئة، فموسكو كانت من أوائل الداعمين لاستقلال الهند، رغم الحذر الأوروبي تجاه هذا التقارب.
من جانبه، قال عضو مجلس الشرق الأوسط للسياسات في واشنطن، ماركو مسعد، إن الهند وروسيا تلتقيان ويحتاج كل منهما الآخر، وإن السياسات الأمريكية دفعت الجانبين إلى البحث عن أشكال أوسع من الشراكة السياسية والتقنية في ظل ما وصفه بالضغوط المتزايدة.
وأكد مسعد، في تصريحات خاصة لـ "إرم نيوز"، أن الهند تعتمد بشكل كبير على روسيا، إذ إن نحو 60% من القطاع العسكري الهندي قائم على السلاح الروسي، كما استفادت من أسعار الطاقة المنخفضة بعد الأزمة الروسية الأوكرانية.
ولفت إلى أن نقل التكنولوجيا الحساسة، خصوصًا النووية، يمثل ركيزة أساسية في العلاقة، في حين تستفيد موسكو في المقابل من التكنولوجيا الهندية في بعض القطاعات.
وأضاف مسعد أن روسيا ترى في الهند منفذًا اقتصاديًا مهمًا بعد العقوبات الغربية، وشريكًا سياسيًا بارزًا داخل بريكس، وأن وجود دولة بحجم الهند يمنح موسكو دعمًا متزايدًا في هذه المرحلة، مؤكدا أن نيودلهي لم تتخلَ عن واشنطن، لكنها تحاول الحفاظ على توازن دقيق بين الشرق والغرب، فتتعامل مع ضغوط أمريكا في ملف الطاقة، وفي الوقت نفسه تتمسك بعلاقتها مع موسكو التي توفر لها السلاح والطاقة والتكنولوجيا الحساسة.
وأضاف أن هذا التقارب لا يمكن اعتباره تحالفًا عسكريًا ثابتًا، بل علاقة مرنة قائمة على المصالح الاقتصادية والعسكرية، ويمكن أن تتوسع أو تتراجع بحسب الظروف الدولية.
واعتبر أن انتهاء الأزمة الأوكرانية أو رفع العقوبات قد يغير شكل العلاقة، لكن المصالح المشتركة ستظل العامل الأهم في تطورها.