تتجه أنظار العالم، الخميس، نحو نيودلهي، التي تستقبل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في زيارة تبدو أقرب إلى اختبار سياسي لقدرة الهند على المناورة بين موسكو وواشنطن، منها إلى لقاء ثنائي تقليدي.
ورغم أن الهند عززت شراكتها مع الولايات المتحدة خلال السنوات الماضية، فإنها عادت مجددًا لفتح الباب أمام السلاح الروسي، في خطوة تحمل رسائل أبعد من مجرد صفقة محتملة.
وعلى الرغم من الضغوط المباشرة من إدارة ترامب للحد من تعاملات نيودلهي مع موسكو، تستعد الهند لبحث واحد من أثقل ملفات التعاون العسكري مع روسيا، وهو شراء مقاتلات "سو–57"، ومنظومة الدفاع الصاروخي المتقدمة "إس–500"، وفق ما نقلته وكالة "بلومبرغ".
وأكدت الوكالة، أن العلاقة بين البلدين تُوصف، رسميًا، بأنها "شراكة إستراتيجية خاصة ومتميزة"، وهي الصيغة التي تمنح الطرفين هامشًا واسعًا لإعادة ترتيب أولوياتهما الدفاعية.
وتدرك واشنطن أن مجرد فتح باب النقاش حول هذه المنظومات الروسية يعقّد مسار أي اتفاق تجاري تسعى إليه مع نيودلهي، خاصة في ظل موقف أمريكي ثابت يعارض توسع الهند في مشتريات السلاح الروسي.
وعلى وقع هذه التغيرات، تبدو حسابات رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي أكثر تعقيدًا؛ إذ إنه لا يزال يحافظ على الروابط التاريخية بين بلاده وموسكو، ومن جهة أخرى عمّق الشراكة مع الولايات المتحدة، في محاولة لنسج توازن دقيق لا يخل بتطلعات بلاده لتكون قوة دولية مستقلة.
وخلال الأعوام الماضية، خفّضت الهند اعتمادها على الأسلحة الروسية عبر تنويع مشترياتها من الولايات المتحدة وأوروبا، إلا أن ذلك لم يمنعها من الإبقاء على التعاون الدفاعي مع موسكو كإحدى الركائز الأساسية في معادلتها العسكرية.
وفي هذا السياق، شدد وزير الدفاع الهندي راجيش كومار سينغ قبل يومين، على أن التعاون الدفاعي مع روسيا "طويل الأمد"، وأن بلاده لا تعتزم وقفه في أي وقت قريب.
ومع وصول بوتين إلى نيودلهي، يقف المشهد على أعتاب مرحلة حساسة، ويعيد طرح تساؤل حول مدى قدرة نيودلهي على إدارة توازناتها بعيدًا عن محاور النفوذ، وفتح الباب أمام السلاح الروسي مجددًا رغم الضغوط الأمريكية.
وقال مدير مركز GSM للأبحاث والدراسات في روسيا د. آصف ملحم، إن "الهند تُعد أحد أهم شركاء روسيا داخل منظومتي بريكس ومنظمة شنغهاي، وإن التعاون بين البلدين يتوسع بصورة ملحوظة خلال السنوات الأخيرة".
وذكر ملحم في تصريح لـ"إرم نيوز"، أن "زيارة الرئيس الروسي إلى الهند ستتركز حول 3 ملفات أساسية: بيع السلاح، وتجارة حوامل الطاقة، وأخيرًا طبيعة العلاقة بين الهند والصين".
وأشار إلى أن "الهند واحدة من أكبر زبائن السلاح الروسي، وأن مساهمة موسكو في تلبية الاحتياجات العسكرية الهندية بلغت 72% بين عامي 2010 و2014، قبل أن تتراجع إلى 55% بين 2015 و2019، ثم تهبط، لاحقًا، إلى نحو 36% خلال الفترة ما بين 2020 و2024، نتيجة انشغال روسيا بالتحضيرات العسكرية للمعركة في أوكرانيا".
وتابع أن "هذا الانخفاض بدأ فعليًا بعد أزمة أوكرانيا العام 2014، وتعمّق بشكل ملحوظ مع اندلاع الحرب الروسية–الأوكرانية بين عامي 2022 و2024".
وأشار ملحم، إلى أن "فرنسا باتت تقترب من روسيا كمنافس رئيس داخل سوق السلاح الهندي بنسبة تُقدَّر بـ28%، إضافة إلى الولايات المتحدة وإسرائيل".
وأكد أن "موسكو تسعى، حاليًا، لبيع مقاتلات سو–57 ومنظومات إس–500 للهند، بينما تبدي نيودلهي رغبة كبيرة في الحصول على هذه المنظومات، خاصة بعد الأداء الفعّال لمنظومة إس–400 خلال المواجهة مع باكستان".
وأضاف ملحم، أن "الهند تتجه إلى تنويع مصادر السلاح خشية تغير السياسات الأمريكية، لا سيما أن باكستان تُعد شريكاً رئيساً لواشنطن من خارج الناتو".
وأشار إلى "وجود مشاريع صناعية مشتركة بين روسيا والهند في تصميم وتصنيع الصواريخ الباليستية بمشاركة شركات من الطرفين".
وفي ملف الطاقة، أوضح أن شركات هندية كبرى، مثل: "إنديان أويل" و"بهارات بتروليوم" واصلت شراء النفط الروسي، لكن التحدي الحالي يتركز في إعادة ضبط سلاسل التوريد واللوجستيات في ظل المراقبة الأمريكية المشددة للممرات البحرية، واحتمالات مصادرة سفن يُشتبه في نقلها النفط الروسي إلى الهند.
ولفت إلى أن آليات الدفع تشكل جزءًا أساسيًا من النقاش، إذ ارتفع اعتماد روسيا والصين على العملات المحلية إلى نحو 90% من حجم التبادل التجاري العام 2024 باستخدام الروبل واليوان، وهو ما قد يُعاد تطبيقه مع الهند لتسهيل عمليات الدفع، وتجاوز العقوبات وتعقيدات التحويلات.
وفي المحور الثالث، أكد ملحم أن موسكو تعمل على تعزيز ما وصفه السياسي الروسي يفغيني بريماكوف بـ"الثلاثية التي ستشكّل مستقبل البشرية"، وهي: روسيا، والصين، والهند.
من جانبه، رأى الباحث الإستراتيجي هشام معتضد، أن "زيارة الرئيس بوتين إلى نيودلهي ليست مجرد بروتوكول دبلوماسي، بل تمثل محطة مفصلية في سباق القوى الكبرى لإعادة صياغة التوازنات الآسيوية".
وأشار في تصريحات لـ"إرم نيوز" إلى أن "الهند، رغم ضغوط واشنطن لدفعها نحو فك الارتباط العسكري مع موسكو، تُظهر مجددًا أنها لا تنوي اختزال إستراتيجيتها الدفاعية في محور واحد، وأن استقبال بوتين في هذه اللحظة يعكس استعداد نيودلهي لإعادة فتح بوابة السلاح الروسي".
وأوضح معتضد، أن "طلب الجيش الهندي شراء مقاتلات "سو–57" يكشف فجوة حرجة في قدرات التفوق الجوي"، مبينًا أن الهند تحتاج إلى مقاتلات جيل خامس قادرة على تنفيذ مهام تمتد من جبال الهيمالايا إلى الحدود مع باكستان.
وأضاف أن "الانتقال من المنصات الروسية القديمة إلى التكنولوجيا الجديدة يعزز الجاهزية السريعة التي تستهدفها القيادة العسكرية الهندية".
وأوضح أنه "رغم احتمال عدم حسم ملفات سو–57 وإس–500 خلال الزيارة، فإن مجرد إدراجهما على طاولة النقاش يمثل تحولًا إستراتيجيًا".
وأكد معتضد، أن "نجاح الهند في اختبار منظومة "إس–400" خلال أزمة مايو/أيار 2025 عزز اقتناعها بأن امتلاك منظومات دفاع جوي متقدمة يمنحها شبكة دفاع متعددة الطبقات لا تستطيع القوى الإقليمية مجاراتها".
وقال إن "موسكو تستغل التوقيت الحالي لإعادة ترميم واحد من أهم أسواقها الدفاعية"، مشيرًا إلى أن العلاقة العسكرية بين روسيا والهند كانت دائمًا ركيزة نفوذ جيوسياسي داخل المحيطين الهندي والهادئ.
ولفت إلى أن موسكو تطرح على الهند صيغة جديدة تقوم على تسليم السلاح، وتوطين التصنيع، في وقت تتردد فيه واشنطن إزاء نقل التكنولوجيا الحساسة.
واعتبر معتضد، أن "واشنطن فشلت في دفع الهند لتقليص اعتمادها على السلاح الروسي، لأن نيودلهي ترى نفسها قوة حضارية تمتلك سيادة إستراتيجية لا تخضع لضغوط الكونغرس".
وأشار إلى أن "الهند تعتبر الحفاظ على التوازن بين موسكو وواشنطن خيارًا دائمًا، لأنه رافعة لاستقلالية قرارها العسكري".
وأضاف معتضد، أن "التعاون العسكري مع روسيا ليس ترفًا سياسيًا بالنسبة للهند، بل ضرورة لردع الصين وباكستان في آن واحد، خاصة أن روسيا تبقى الدولة القادرة على تزويد الهند بمنصات معقدة بتكلفة تشغيل مقبولة ومن دون شروط سياسية مقيدة".
وأوضح أن "الولايات المتحدة تجد نفسها أمام معادلة معقدة، فهي تحتاج الهند في مشروع احتواء الصين، لكنها تصطدم بإرث روسي تُصعب إزاحته".