تتجه الأنظار هذا الأسبوع إلى بكين، حيث يصل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في زيارة تبدو أقرب إلى محاولة قراءة الواقع أكثر مما هي بحث عن نتائج سريعة، فالعلاقة بين أوروبا والصين تمرّ بمرحلة تحتاج إلى وضوح أكبر؛ من حيث التبادل التجاري الذي يتوسع بصورة تفوق قدرة الصناعات الأوروبية على المنافسة، والتوترات الدولية تضغط على مسارات الإمداد، والحرب في أوكرانيا التي أعادت رسم حدود القلق الأمني داخل القارة.
وسط كل ذلك، تحاول باريس أن تفهم ما إذا كانت بكين مستعدة لفتح نافذة جديدة للحوار تساعد على تنظيم العلاقة المتشابكة بين الطرفين، اقتصاديًا وسياسيًا وأمنيًا، من دون توقعات مبالغ فيها أو رهانات أكبر مما يسمح به الواقع.
مصدر دبلوماسي فرنسي رفيع قال في تصريحات خاصة لـ"إرم نيوز"، إن باريس تتعامل مع الزيارة انطلاقًا من كونها فرصة لإعادة ترتيب التواصل مع بكين وفق معادلة واضحة المعالم، لا تقوم على الاندفاع ولا على القطيعة، ولكن على تنظيم العلاقة بما يسمح بحماية المصالح المشتركة وإدارة نقاط التباين بصورة هادئة وعملية.
وأوضح المصدر أن فرنسا لا تبحث عن صيغ استثنائية أو وعود كبيرة، بل عن التزام متبادل بقواعد شفافة في الملفات الاقتصادية والتجارية، مع مساحة كافية للنقاش في الملفات السياسية الحساسة من دون تحويلها إلى نقاط اشتباك، وأضاف أن باريس ترى في الصين شريكًا اقتصاديًا لا يمكن تجاوزه، لكنها في الوقت نفسه تحتاج إلى علاقة تقوم على التوازن واحترام معايير المنافسة، خصوصًا في القطاعات التي شهدت اختلالات واضحة خلال الأعوام الأخيرة.
وأشار إلى أن فرنسا تذهب إلى بكين وهي مدركة أنها تتحرك داخل إطار أوروبي أوسع، وأن أي تفاهم لن تكون قيمته كاملة ما لم ينسجم مع الخط العام الذي يعمل عليه الاتحاد الأوروبي.
وتابع قائلًا: "فرنسا ليست في موقع الباحث عن صيغة ثنائية منفصلة عن أوروبا، لكنها في موقع من يريد اختبار مساحات يمكن أن تفيد الأوروبيين جميعًا إذا ثبت أنها واقعية وقابلة للتطبيق".
وبيّن المصدر أن ما تنتظره باريس "إشارات جدية على استعداد بكين للانخراط في نقاش منظم حول الميزان التجاري، وقواعد المنافسة في الصناعات المتقدمة، وملفات الممرات البحرية، وتأثير التوترات الدولية على سلاسل الإمداد"، وقال: "هذه القضايا أصبحت جزءًا من التفكير الاستراتيجي الأوروبي، وفرنسا تتحرك ضمن هذا المنطق".
هذا ويظل الملف التجاري نقطة الانطلاق لأي نقاش بين فرنسا والصين، فالفجوة الواسعة في الميزان التجاري باتت تُرهِق الصناعات الأوروبية، خاصة في القطاعات التي تتعامل مع منتجات صينية منخفضة التكلفة مثل الصلب والبطاريات والسيارات الكهربائية.
فرنسا، التي تستثمر بكثافة في التحول نحو الطاقة النظيفة والتنقل الكهربائي، تبحث خلال الزيارة عن صيغة تسمح بتخفيف هذا الضغط من خلال فتح قنوات أوسع أمام الشركات الأوروبية داخل السوق الصينية. وقد يكون الأمر من خلال السعي لإيجاد معايير واضحة تتيح للشركات العمل في بيئة تنافسية قابلة للاستمرار، خاصة في القطاعات عالية القيمة التي تعتمد على الابتكار والتكنولوجيا المتقدمة.
كذلك فإن الجانب البحري يحمل وزنًا حقيقيًا في الحوار الفرنسي–الصيني، فالصين تعتمد على استقرار الممرات البحرية لضمان تدفق صادراتها ووارداتها، وفرنسا تمتلك حضورًا فعليًا في المحيطين الهندي والهادئ من خلال أقاليمها الخارجية. ومع اضطراب خطوط الشحن العالمية خلال الأعوام الأخيرة، أصبح الحفاظ على حرية الحركة البحرية ملفًا اقتصاديًا قبل أن يكون أمنيًا.
المباحثات في هذا الجانب تميل إلى الطابع العملي، من حيث كيفية الحد من تأثير التوترات الإقليمية على التجارة، وضمان سلامة الممرات في بحر الصين الجنوبي، وتأثير الاضطرابات العالمية على النقل البحري.
يقول مصدر دبلوماسي صيني إن بكين تنظر إلى العلاقة مع باريس باعتبارها واحدة من أكثر العلاقات الأوروبية استقرارًا وتأثيرًا، وإن وجود قناة حوار مستمرة بين البلدين يساعد على إبقاء الملفات السياسية والاقتصادية ضمن إطار تفاهم يمكن تطويره تدريجيًا.
ويوضح المصدر خلال حديثه لـ"إرم نيوز" أن الصين تقدّر مقاربة باريس التي تفضّل الحوار المباشر وتبنّي لغة عملية في الملفات الاقتصادية، وهو ما تعتبره بكين أساسًا ضروريًا لمعالجة الاختلالات وتوسيع مساحات التعاون في القطاعات التكنولوجية والصناعية والتحول الأخضر. ويضيف أن بكين "ترى في الشركات الفرنسية شريكًا تاريخيًا في مجالات الطاقة والبنى التحتية والطيران، وأن الحفاظ على هذه الشراكة يخدم الطرفين في مرحلة تحتاج استقرارًا أكبر في سلاسل الإمداد العالمية".
ويشير المصدر الدبلوماسي إلى أن الملفات التي تعتبرها بكين مشتركة مع باريس تشمل "التنسيق في قضايا المناخ، ومشاريع الطاقة النظيفة، وتنظيم السوق في مجال السيارات الكهربائية، والتعاون في الأمن البحري وحماية خطوط التجارة الدولية".
وفي ما يخصّ الملفات التي ترى بكين أنها تحتاج مراجعة، يبين المصدر أن "الصين ترغب في نقاش أكثر دقة حول سياسات الاتحاد الأوروبي المتعلقة بالتحقيقات التجارية، خصوصًا في قطاع السيارات الكهربائية وبعض الصناعات الحساسة"، مبينًا أن بكين "تفضّل معالجة هذه المخاوف عبر قنوات ثنائية مع باريس إلى جانب الإطار الأوروبي العام، لأن ذلك يتيح فهمًا أوضح للمرونة الفرنسية داخل المؤسسات الأوروبية".
واختتم المصدر بالقول إن بكين "ترى في زيارة الرئيس الفرنسي فرصة لإعادة تثبيت مسار منظم للعلاقة، يقوم على المصالح المتبادلة، واحترام خصوصيات كل طرف، والبحث عن حلول عملية للملفات الاقتصادية والأمنية، من دون تحويل نقاط الخلاف إلى عوائق أمام التعاون الطويل الأمد بين البلدين".
المحلل السياسي الفرنسي جان لوك مارتان، المتخصص في العلاقات الأوروبية–الآسيوية، يرى خلال حديثه لـ"إرم نيوز" أن زيارة ماكرون إلى الصين تكشف عن رغبة فرنسية في إيجاد مساحة وسط بين ضرورات الاقتصاد الأوروبي وضغوط البيئة الدولية التي تتغير بسرعة. ويقول إن باريس تنظر إلى الزيارة كاختبار لمدى استعداد بكين للتفاعل مع القلق الأوروبي من الاختلال التجاري، وتحديدًا في قطاعي البطاريات والسيارات الكهربائية اللذين يشكلان محور التحول الصناعي الأوروبي.
ويضيف مارتان أن فرنسا "تميل إلى استخدام الحوار الثنائي لفهم حدود المناورة الممكنة قبل العودة إلى الطاولة الأوروبية المشتركة، لأن الهامش الوطني لا يزال ضروريًا لصياغة موقف أوروبي أكثر تماسكًا". ويوضح أن باريس تحاول أن توازن بين حاجتها إلى شريك اقتصادي ضخم، وبين رغبتها في عدم الظهور كطرف يريد مغادرة الإطار الأوروبي أو تقديم تنازلات تتجاوز ما يمكن للدول الأعضاء القبول به.
أما المحلل الصيني لي وي تشانغ، الخبير في السياسة الخارجية الصينية، اعتبر خلال حديثه لـ"إرم نيوز" أن بكين تنظر إلى زيارة ماكرون كفرصة لإعادة بناء الثقة مع أوروبا، من خلال تثبيت منهج حوار منتظم يُخرج العلاقة من حالة التذبذب التي شهدتها خلال السنوات الماضية. وأكد أن الصين قد تقرأ التحرك الفرنسي باعتباره محاولة للتأكيد على أن أوروبا لا تريد نقل خلافاتها التجارية إلى مستوى سياسي أوسع، وأنها ما زالت قادرة على التفكير من موقعها الخاص بعيدًا عن الضغوط المتبادلة بين بكين وواشنطن.
وأضاف تشانغ أن بكين تولي أهمية خاصة للملفات التقنية والصناعية، لأنها تدرك أن مستقبل العلاقة مع أوروبا سيُبنى على قدرتها على طمأنة الشركاء الأوروبيين بأن المنافسة في مجالات السيارات الكهربائية والطاقة المتجددة يمكن تنظيمها عبر قواعد واضحة. وأوضح أن الصين ترى أيضًا أن لفرنسا دورًا يمكن أن يسهم في تخفيف التوتر في الملفات البحرية، "لأن باريس تمتلك قدرة على مخاطبة بكين بلغة المصالح".