أعلنت السلطات المالية اعتقال يان فيزيلييه، المسؤول في السفارة الفرنسية بباماكو، بتهمة العمل لصالح أجهزة المخابرات الفرنسية والتآمر على استقرار البلاد.
الإعلان جاء على لسان وزير الأمن المالي، الجنرال داوود علي محمدين، الذي أكّد أن الدبلوماسي الفرنسي لم يكن مجرّد موظف عادي، بل "عرّاب شبكة سرية" تهدف إلى تجنيد قادة سياسيين وعسكريين لزعزعة الحكم القائم.
وزارة الخارجية الفرنسية ردّت بسرعة خاطفة، معتبرة الاعتقال "انتهاكًا صارخًا لاتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية"، وطالبت بالإفراج الفوري عن مواطنها.
لكن باماكو، التي تتبنّى منذ سنوات خطابًا عدائيًا تجاه النفوذ الفرنسي، تبدو هذه المرّة مصممة على التصعيد، إذ تربط اتهاماتها بـ"مؤامرة داخلية واسعة" طالت أيضًا قيادات عسكرية وسياسية بارزة.
ففي بداية أغسطس/ آب أعلنت مالي اعتقال عشرات العسكريين، بينهم جنرالان رفيعا المستوى، بتهمة التورط في محاولة لزعزعة مؤسسات الدولة.
وشددت السلطات حينها على أن "الوضع تحت السيطرة"، لكنها لم تُخفِ خشيتها من دعم خارجي يقف خلف هذه التحركات، وها هو اسم فرنسا يُقحم علنًا في قلب العاصفة.
لم يكن المشهد السياسي الداخلي أقل اشتعالًا، فقد اعتُقل رئيس الوزراء الأسبق موسى مارا بعدما زار سجناء سياسيين وتحدث عن "تحقيق العدالة لهم"، فيما طالت الاعتقالات أيضًا رئيس الوزراء السابق تشوغيل مايغا بتهم فساد، بعد أيام من انتقاده النظام الحاكم بسبب تأجيل الانتخابات.
ويرى مراقبون أن المجلس العسكري في باماكو يستخدم ملف الأمن والتآمر كذريعة لإسكات أي صوت معارض، وتحويل مسار النقاش من الديمقراطية إلى "المؤامرة الخارجية".
لم تعرف العلاقات بين مالي وفرنسا الاستقرار منذ الإطاحة بالرئيس إبراهيم بوبكر كيتا عام 2020، وصعود المجلس العسكري الذي طرد القوات الفرنسية، متّهمًا باريس بـ"استعمار جديد مقنّع".
واليوم، يبدو أن اعتقال مسؤول في السفارة الفرنسية يمثّل القفزة الأخطر نحو قطيعة شبه كاملة.
فالاتهام لم يعد يدور حول سياسات أو تدخلات غير مباشرة، بل وصل إلى صميم الدبلوماسية الفرنسية نفسها.
وأكد خبراء أن باماكو تراهن على هذا التصعيد لتعزيز خطابها السيادي في الداخل، ولإرسال رسالة إلى باريس والعواصم الغربية مفادها أن زمن "الهيمنة" قد ولى.
لكن الثمن قد يكون باهظًا: عزلة دبلوماسية متزايدة، وانهيار جسور التواصل التي لا غنى عنها في مواجهة التهديدات الأمنية والإرهابية التي تمزق منطقة الساحل.
بينما تصرّ مالي على أن ما يحدث هو "مخطط خارجي لإسقاط النظام"، ترد باريس بأن ما يجري ليس سوى مسرحية لتغطية القمع المتصاعد للمعارضة، وتحويل الأنظار عن فشل المجلس العسكري في تنظيم انتخابات طال انتظارها.
وفي غياب قنوات حوار فعالة، تتحول الأزمة إلى معركة سرديات مفتوحة، كل طرف يسعى من خلالها إلى كسب الرأي العام المحلي والدولي.
اعتقال يان فيزيلييه ليس مجرد حادثة دبلوماسية عابرة، بل تطور ينذر بتفجير أزمة عميقة بين مالي وفرنسا.
فبينما ترى باماكو في باريس خصمًا متربصًا يسعى لإسقاطها، تعتبر باريس أن ما يجري ينسف أسس العمل الدبلوماسي. وفي منطقة الساحل الغارقة في الإرهاب والانقلابات، قد يتحوّل هذا الصدام إلى شرارة جديدة تُعيد رسم خريطة التحالفات والتوازنات في غرب إفريقيا.