بعد ساعات من هجوم أوكراني استهدف محيط قصره في موسكو، حطّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين رحاله، الأحد، في مدينة تيانجين الصينية، ليفتتح واحدة من أبرز محطاته الخارجية هذا العام.
وبدأت، اليوم الاثنين، قمة منظمة شنغهاي للتعاون، حيث التقى الزعيمان الروسي والصيني مع أكثر من 20 زعيمًا، في مشهد يسعى لتكريس صورة عالم "متعدد الأقطاب" في مواجهة النفوذ الغربي.
وشهدت القمة مشاركة قادة الدول الأعضاء المؤسسين للمنظمة، التي تضم كلًا من: روسيا، الصين، كازاخستان، قرغيزستان، طاجيكستان، وأوزبكستان، إضافة إلى الهند، باكستان، إيران، وبيلاروس، التي انضمت في السنوات الأخيرة.
ويثير توقيت زيارة الرئيس الروسي للصين الانتباه، إذ جاءت بعد أسبوعين فقط من قمة ألاسكا التي جمعت الولايات المتحدة وحلفاءها، وفي أعقاب التطورات العسكرية الأخيرة داخل روسيا.
وكشفت تصريحات المسؤولين الروس ملامح الرؤية الروسية - الصينية المشتركة، حيث أكد الرئيس بوتين أن العالم متعدد الأقطاب أصبح "حقيقة واقعة"، مشددًا على أن الشراكة مع بكين تمثل ركيزة لبناء نظام عالمي أكثر عدلًا، قائمًا على احترام السيادة والتوازن في مواجهة الهيمنة الغربية.
ومع سعي روسيا والصين لكسر عزلتهما الدولية وتكريس تحالفهما، يبرز سؤال هام: إلى أي مدى يمكن أن تشكل هذه القمة نقطة تحوّل فعلية في موازين القوى الدولية؟
ويرى الخبراء أن قمة منظمة شنغهاي للتعاون، التي يحضرها بوتين في الصين، تتجاوز كونها لقاءً إقليميًا روتينيًا، خصوصًا أنها تعكس مساعي متصاعدة لإعادة تشكيل ميزان القوى العالمي في مواجهة النفوذ الغربي بقيادة واشنطن.
واعتبر الخبراء، في تصريحات لـ"إرم نيوز"، أن أجندة القمة تركز على ملفات الأمن المشترك، ومكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة، إلى جانب الدفع نحو بدائل اقتصادية عبر استخدام العملات الوطنية وإنشاء مؤسسات مالية جديدة تقلص الاعتماد على النظام الغربي.
وأضافوا أن الزيارة تمثل مكسبًا سياسيًا إضافيًا للكرملين على طاولة المفاوضات مع أوكرانيا، في وقت تبحث فيه دول الجنوب العالمي عن بدائل للتكتلات الغربية؛ ما قد يمنح منظمة شنغهاي زخمًا متزايدًا للتحول إلى ركيزة في بناء عالم متعدد الأقطاب.
ترسيخ التعددية القطبية
بداية، قال ديميتري بريجع، مدير وحدة الدراسات الروسية في مركز الدراسات العربية الأوراسية، إن قمة منظمة شنغهاي للتعاون المنعقدة في الصين تتجاوز كونها مجرد لقاء إقليمي اعتيادي، وإنها تعكس ـ على حد وصفه ـ جهودًا متنامية لإعادة رسم موازين القوى الدولية في ظل نظام عالمي يتسم بالاستقطاب، بين محور غربي تقوده الولايات المتحدة وحلفاؤها، ومحور مقابل يسعى لترسيخ التعددية القطبية بقيادة موسكو وبكين.
وأكد بريجع، في تصريحات لـ"إرم نيوز"، أن أجندة القمة تركز على ملفات محورية، أبرزها تعزيز الأمن الجماعي في مواجهة التحديات العابرة للحدود مثل الإرهاب، والجريمة المنظمة، والتطرف، إلى جانب ملف الأمن السيبراني الذي بات ساحة رئيسية للصراع الجيوسياسي المعاصر.
وأشار إلى أن الاهتمام لا يقتصر على البعد الأمني فقط، بل يمتد إلى الجانب الاقتصادي، حيث تعمل الدول الأعضاء على التوسع في استخدام العملات الوطنية وتطوير أدوات مالية موازية للنظام الغربي، بما في ذلك طرح مشروع بنك تنمية خاص بالمنظمة، في خطوة تهدف إلى تقليل الاعتماد على الدولار الأمريكي.
ولفت مدير وحدة الدراسات الروسية إلى أن القمة تمثل أيضًا ساحة لتبادل المواقف حول أزمات دولية ساخنة، من أوكرانيا إلى قضايا الشرق الأوسط وفلسطين، وهو ما يعكس رغبة جماعية في بلورة خطاب موازٍ للنفوذ الغربي، قائم على الاحترام المتبادل وعدم التدخل في الشؤون الداخلية.
تحديات دول الجنوب
وبيّن المحلل الروسي أن التوسع المستمر للمنظمة عبر استقطاب أعضاء ومراقبين جدد يمنحها وزنًا إضافيًا، وتحديدًا لدى دول الجنوب الباحثة عن بدائل للتكتلات الغربية، على الرغم من التحديات الداخلية التي تواجه تلك الدول، أبرزها الخلافات بين الهند وباكستان وتباين المواقف الإقليمية.
وأكد ديميتري بريجع أن منظمة شنغهاي تقف اليوم أمام مفترق طرق مهم؛ فبينما لم تصل بعد إلى مستوى مؤسسة بديلة للنظام الغربي، إلا أنها تسير بخطوات متصاعدة نحو بلورة نموذج مختلف للعلاقات الدولية، يقوم على التعاون الأمني والاقتصادي وصياغة نظام متعدد الأقطاب، مع إمكانية أن تتحول مستقبلًا إلى ركيزة أساسية في النظام العالمي الجديد إذا تمكنت من تجاوز خلافاتها الداخلية.
رسائل إلى الغرب
من جانبه، أكد كارزان حميد، المحلل السياسي والخبير في الشؤون الأوروبية، أن زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى الصين تحمل رسائل مباشرة للغرب، وبالأخص الاتحاد الأوروبي، مفادها أن موسكو ليست معزولة، وأنها قادرة على إعادة تحريك التوازنات الدولية.
وأشار، في تصريحات لـ"إرم نيوز"، إلى أن بوتين، بهذه الخطوة، يتجاهل مذكرة التوقيف الدولية الصادرة عن المحكمة الجنائية، في رسالة تؤكد أن الكرملين لا يعترف بها، وأن الرئيس الروسي يواصل تحركاته بحرية كاملة.
وأضاف حميد أن روسيا، في ظل إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، تسعى لإعادة صياغة موازين القوى العالمية، مستفيدة من توترات خلّفتها السياسات الاقتصادية الأمريكية، وعلى رأسها فرض الرسوم الجمركية، التي وضعت الكثير من الدول في مأزق اقتصادي ودبلوماسي.
وأوضح أن بكين وموسكو تدفعان منذ سنوات باتجاه بناء نظام عالمي متعدد الأقطاب أكثر توازنًا، من خلال أطر تعاون مثل "بريكس" ومنظمة شنغهاي.
وقال إن فكرة التحالف الثلاثي بين روسيا والصين والهند تعود إلى الواجهة من جديد، بعدما دفعت السياسات الأمريكية، خاصة في عهد ترامب، إلى اهتزاز الثقة بين واشنطن ونيودلهي؛ الأمر الذي جعل رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي يعيد التفكير في موقع بلاده الاستراتيجي.
وأشار الخبير في الشؤون الروسية إلى أن موسكو تستغل هذا الظرف لاستمالة الهند عبر عروض اقتصادية مغرية، خاصة في قطاع الطاقة بأسعار تنافسية، بما يعزز تقاربها مع المحور الروسي-الصيني.
وكشف حميد، في تصريحاته، عن وجود تفاهمات غير معلنة بين إدارة ترامب والكرملين حول صفقات كبرى في مجال الطاقة، إضافة إلى اعتراف ضمني بسيطرة روسيا على مناطق واسعة في أوكرانيا، متوقعًا أن تُكمل موسكو سيطرتها على كامل إقليم لوغانسك قريبًا.
وأكد أن رسائل بوتين لا تقتصر على بكين ونيودلهي، بل تمتد إلى عشرات الدول عبر القارات، في محاولة لوضع الغرب في موقف أكثر عزلة سياسيًا واستراتيجيًا خلال المرحلة المقبلة.