مكّن تنافس القوى الغربية الكبرى على التموضع في خريطة المصالح بالقارة الأفريقية، وتغيّر قواعد المجتمع الدولي ضد القادة الانقلابيين، من تغذية الاضطرابات السياسية والاجتماعية الموجودة أصلا والتي فاقمتها التنظيمات المتطرفة والمتمردة.
وتعجّ الساحة الأفريقية بالباحثين عن موطئ قدم من الولايات المتحدة إلى فرنسا وأوروبا، الذين يسارعون للحفاظ على نفوذهم، لاسيما ضد النفوذ الصيني والروسي المتزايد، عبر الدعم العسكري والتحالفات، لكنهم يواجهون تحديات من الأنظمة المعادية على غرار مالي والنيجر وأفريقيا الوسطى وبعض الدول التي شهدت انقلابات.
ويُظهر تقريرٌ صادر عن مؤسسة "غالوب" الأمريكية عام 2024 أن الولايات المتحدة تخسر نفوذها في مجال القوة الناعمة لصالح الصين، التي عرضت على أفريقيا العام الماضي فقط تمويلاً بقيمة 51 مليار دولار على مدى السنوات الثلاث المقبلة.
وفي أعقاب إعلانات الرئيس دونالد ترامب عن "يوم التحرير" للتعريفات الجمركية، ألغت الصين جميع التعريفات على الواردات الأفريقية. كما يتوسع النفوذ الأمني الروسي في أفريقيا، لا سيما في منطقة الساحل التي تشهد انقلابات، وتُعمّق موسكو جهودها في مجال القوة الناعمة في القارة.
وقد تبنّت إدارة ترامب نهجاً تجارياً لا مساعداتياً في العلاقات مع أفريقيا، وأسفرت قمة الأعمال الأمريكية الأفريقية لعام 2025 عن صفقات والتزامات قياسية بلغت 2.5 مليار دولار، حيث باتت تُبنى الشراكات على المصالح أكثر من الأيديولوجيا.
ومعروف عن الصين تركيزها على الاستثمارات وسياسة منح القروض المشروطة ومشاريع البنية التحتية، وتأمين الموارد الطبيعية.
أما روسيا، هي الأخرى فتزيد من حضورها عبر التعاون الأمني، الدعم العسكري وبيع السلاح، مما أنهى النفوذ الفرنسي في مناطق الساحل الأفريقي، وليس بعيدا عنهم القوى الإقليمية الأخرى على غرار تركيا أو إيران التي تنفذ أجندات مشبوهة عبر دعم أطراف محلية وعقد صفقات معها، مما يزيد من تعقيد النزاعات.
ويغذي هذا الوضع تصاعد موجة الاضطرابات من خلال التنافس على المعادن الثمينة والموانئ، ويشعل فتيل الصراعات المحلية بالوكالة عبر دعم جهات متعددة كما هو حاصل في الكونغو الديمقراطية، أو الموزمبيق مستغلين ضعف الحكومات وفسادها.
وتتمتع أفريقيا باحتياطيات هائلة من المعادن خاصة الذهب ضمن ما يعرف بحزام الحجر الأخضر البريمي الذي يمتد عبر عدة دول منها غانا ومالي وبوركينا فاسو، كما تحتوي على رواسب كبيرة من البوكسيت والليثيوم والمنغنيز والنيكل والفوسفات والزنك، بينما يعد غرب أفريقيا من أهم مصدري الذهب واليورانيوم وخام الحديد والماس.
وكشفت بيانات نشرتها منصة "إينرجي باور آند كابيتال" المتخصصة في متابعة قطاع الطاقة في أفريقيا، أن غينيا تمثل موطنا لأكبر احتياطيات البوكسيت في العالم حيث استحوذت على أكثر من نصف صادرات خام الألمنيوم العالمية في عام 2020.
وبجانب كونها منتجا رئيسيا للذهب وخام الحديد والماس احتلت غانا المرتبة الثانية عالميا من حيث إنتاج البوكسيت في عام 2022، كما تعد خامس أكبر مصدر للمنغنيز.
أما الغابون فتمتلك ثاني أكبر احتياطات المنغنيز في العالم، وهي في طليعة كبار منتجيه عالميا.
رغم ذلك فإن معظم الثروة المعدنية في المنطقة لا تزال غير مستغلة، مما يعني أن أهمية أفريقيا في الاقتصاد المعدني العالمي سوف تزداد في المستقبل ويزداد التنافس معها.
وعاد المتخصص في ديناميكيات الأمن في غرب أفريقيا، رِدا سانتي في تصريح خاص لـ"إرم نيوز"، إلى ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، عندما كان انتهاك القواعد الديمقراطية يُعرّض المتورطين لغضب المجتمع الدولي والعقوبات الدولية والمالية. أما اليوم، فبددت صناديق الاستثمار البديلة الصينية والإيرانية والتركية هذا الخوف، وفق قوله.
ومنذ عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، سارت الولايات المتحدة على النهج نفسه، إذ لم تعد تهتم إلا بالأعمال التجارية وصفقات المعادن ومكافحة التطرف.
وأكد سانتي أن "البراغماتية الدبلوماسية ضحّت بالمبادئ التي كانت تُدافع عنها سابقًا بسبب المصالح الاستراتيجية".
وضمن هذا السياق يقدم مراقبون تفسيرات أخرى لسبب تمدّد "الحزام الانقلابي" من بنين وقبلها غينيا بيساو ومدغشقر، والغابون، والنيجر، وبوركينا فاسو، وغينيا كوناكري، ومالي إلى وقوف جهات مدعومة من الخارج للإطاحة بالأنظمة المنتخبة وإعادة رسم خرائط التموقع الاقتصادي والسياسي لصالح القوى العالمية المتنافسة.
ومكّنت هشاشة الحكم في أفريقيا، الناجمة عن الاضطرابات السياسية، جماعات أخرى متمردة ومتطرفة من حجز مكان لها خاصة بدول الساحل التي أصبحت مركزاً للإرهاب العالمي، حيث يقع أكثر من نصف الوفيات المرتبطة بالعنف في منطقة جنوب الصحراء الكبرى، وتحديداً في مالي والنيجر وبوركينا فاسو، وتُعزى معظم هذه الهجمات إلى جماعات تابعة لتنظيمي داعش والقاعدة.