لطالما صرح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بأنه يريد أن يُذكر كـ"رجل سلام"، ويزعم أنه منذ عودته إلى البيت الأبيض، في يناير/كانون الثاني، من هذا العام، أنهى 7 حروب.
ومن عجيب المفارقات أنه على الرغم من تصريحاته الداعمة للسلام، فإن ترامب يغذّي ارتفاعاً "غير مسبوق" في أسهم الدفاع الأمريكية، بحسب رصد وتحليل دقيق أجرته مراكز الدراسات.
خلال الأشهر الـ9 التي قضاها في منصبه، تفوقت الأسهم الدفاعية لواشنطن على سوق الأسهم الأمريكية بهامش لم نشهده في القرن الحادي والعشرين، بما في ذلك خلال فترة ولاية ترامب الأولى، أو حتى في عهد الرئيس الأسبق جورج دبليو بوش، المعروف ببدء حروب كبرى، بما في ذلك أطول حرب للولايات المتحدة في التاريخ، وهي الحرب في أفغانستان، وكذلك حرب العراق.
علاوة على ذلك، في غضون 8 أشهر من رئاسة بوش الأولى، عانت الولايات المتحدة من أسوأ الهجمات الإرهابية في تاريخها، وهي هجمات 11 سبتمبر، وكان لكبار مسؤولي إدارته علاقات وطيدة بالمجمع الصناعي الدفاعي الأمريكي، فعلى سبيل المثال، كان نائب الرئيس ديك تشيني رئيسًا تنفيذيًا سابقًا لشركة هاليبرتون.
ويقول الخبراء إنه مع ذلك، وعلى الرغم من هذه الهجمات الإرهابية، والحرب العالمية على الإرهاب التي شاركت فيها كل دول حلف شمال الأطلسي تقريبا، والحرب في العراق، فإن الارتفاع في أسهم الدفاع في عهد بوش لا يعد شيئاً مقارنة برئاسة ترامب الثانية.
ويحذّر المحللون من أن أسهم الدفاع تتداول عند تقييمات مرتفعة للغاية يصعب تفسيرها بالاعتماد على الأساسيات وحدها، وفقاً للتقرير الدفاعي لموقع "The EurAsian Times".
إذن، لماذا تشهد أسهم الدفاع ارتفاعًا غير مسبوق في عهد رئيس وصفه البيت الأبيض - مرارًا وتكرارًا - بأنه "رئيس السلام"، والذي، وفقًا لاعترافه الشخصي، يريد أن يتذكره الناس باعتباره الرئيس الذي ينهي الحروب، بدلاً من بدء أخرى جديدة؟
خلال فترة رئاسة ترامب الثانية، كشفت التقارير أن العائدات السنوية لأسهم الطيران والدفاع على مؤشر "S&P 500 Equal Weighted" تفوقت بنسبة غير مسبوقة بلغت 52.3%، وفقًا لتحليل "بلومبرغ" الأخير.
في عهد ترامب، بينما أعطت أسهم الفضاء والدفاع عائداً سنوياً بنسبة 59.5%، أعطى مؤشر ستاندرد آند بورز 500 المرجح بالتساوي عائداً سنوياً بنسبة 7.3% فقط.
أما في عهد سلف ترامب، الرئيس جو بايدن، فتفوقت أسهم الفضاء والدفاع على مؤشر ستاندرد آند بورز 500 بنسبة 0.4% فقط.
حتى في ظل رئاسة ترامب الأولى (2016-2020)، تفوقت أسهم الطيران والدفاع على مؤشر S&P 500 بنسبة 5.5%.
وخلال فترة حكم باراك أوباما التي استمرت 8 سنوات (2008-2016)، كان العائد السنوي لأسهم قطاعي الطيران والدفاع أعلى بنحو 0.3% فقط.
وخلال فترة حكم بوش التي استمرت 8 سنوات (2000-2008)، تفوقت أسهم الفضاء والدفاع على مؤشر ستاندرد آند بورز 500 بنسبة 8.7%.
ومن الواضح أن أسهم الدفاع تشهد ارتفاعاً لم نشهده خلال السنوات الـ25 الماضية.
عدة عوامل ومعطيات تكشف تفسير مفارقة ارتفاع أسهم الدفاع في ظل "رئيس السلام". فعلى الرغم من خطابه السلمي، أعطى ترامب الضوء الأخضر للعديد من مشاريع الدفاع الكبرى.
في مارس/آذار من هذا العام، أعلن ترامب أن القوات الجوية الأمريكية اختارت شركة بوينغ لعقد بقيمة 20 مليار دولار لتطوير طائرة الجيل القادم المقاتلة للسيطرة الجوية (NGAD)، وأطلق عليها رسمياً اسم F-47.
تم تصميم هذه الطائرة الشبحية من الجيل السادس لخلافة طائرة F-22 رابتور، مع قدرات متقدمة لتنسيق الطائرات بدون طيار، واختراق الدفاعات الجوية للعدو.
في مايو، وافق ترامب على مشروع درع الدفاع الصاروخي "القبة الذهبية"، واختار تصميمًا بقيمة 175 مليار دولار أمريكي.
هذا النظام متعدد الطبقات، بحسب ما ترصده مراكز الدراسات، المستوحى من القبة الحديدية الإسرائيلية، توسع ليشمل: أجهزة استشعار فضائية، وصواريخ اعتراضية، ودفاعات ضد الصواريخ الأسرع من الصوت والصواريخ الباليستية من خصوم، مثل الصين وروسيا، يهدف إلى الوصول إلى حالة التشغيل الكامل بحلول عام 2029.
وأعلن ترامب أيضًا عن طلب تمويل أولي بقيمة 25 مليار دولار عبر الكونغرس، على الرغم من أن الخبراء يحذّرون من تكاليف أعلى على المدى الطويل قد تصل إلى 831 مليار دولار.
في الواقع، في عهد إدارة ترامب، وصلت ميزانية الدفاع الأمريكية إلى معلم تاريخي يتمثل في بلوغها تريليون دولار أمريكي للسنة المالية 2026، كما أعلن ترامب، ووزير الدفاع بيت هيغسيث، في أبريل/نيسان 2025.
ويجمع هذا الرقم بين مخصصات الدفاع الوطني الأساسية البالغة نحو 893 مليار دولار أمريكي ــ وهو مبلغ ثابت عن السنة المالية 2025 ــ مع 150 مليار دولار أمريكي إضافية في التمويل التكميلي الذي تم تأمينه من خلال مشروع قانون المصالحة الذي أقره مجلس النواب في يوليو/تموز 2025.
وتدعم هذه الزيادة، بحسب خبراء، أولويات، مثل: برنامج مقاتلات إف-47، ونظام الدفاع الصاروخي "القبة الذهبية"، وبناء السفن، وتجديد الذخائر.
وأكد هؤلاء الخبراء أن هذه هي المرة الأولى في التاريخ التي تصل فيها ميزانية الدفاع الأمريكية إلى تريليون دولار.
وعلى نحو مماثل، مارس ترامب ضغوطاً على دول حلف شمال الأطلسي، وحلفاء آخرين للولايات المتحدة، مثل اليابان وكوريا الجنوبية، لزيادة إنفاقهم الدفاعي بشكل كبير.
في قمة حلف شمال الأطلسي التي عقدت في لاهاي، في يونيو/حزيران 2025، وافقت الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي البالغ عددها 32 دولة على هدف جديد للإنفاق الدفاعي بنسبة 5% من الناتج المحلي الإجمالي سنويا بحلول عام 2035، وهو أكثر من ضعف التوجيهات البالغة 2% التي تم تحديدها في العام 2014.
ووفق تقرير موقع "The EurAsian Times" المتخصص بالدفاع، فإن هذا الالتزام، الذي يضغط عليه الرئيس ترامب بقوة، يشمل ما لا يقل عن 3.5% من الناتج المحلي الإجمالي لمتطلبات الدفاع الأساسية (القوات والمعدات والبحث والتطوير) لتلبية أهداف قدرات حلف شمال الأطلسي، بالإضافة إلى ما يصل إلى 1.5% للاستثمارات الأوسع نطاقاً المتعلقة بالأمن، مثل البنية التحتية الحيوية، والأمن السيبراني، والمرونة المدنية.
وبموجب هذا الهدف المتجدد للإنفاق الدفاعي لحلف شمال الأطلسي، من الممكن إنفاق تريليون دولار إضافية على مشاريع الدفاع خلال السنوات المقبلة.
أضاف الخبراء في هذا الإطار: "سيذهب جزء كبير من هذا الإنفاق الدفاعي المتزايد إلى شركات الدفاع الأمريكية، حيث يتعين على دول حلف شمال الأطلسي الحفاظ على معايير التشغيل البيني لإجراء العمليات المتعددة الجنسيات بشكل فعال".
وعلاوة على ذلك، في حين أن ترامب لا يمل أبداً من تسويق أوراق اعتماده في مجال السلام وتسليط الضوء على أنه أنهى 7 حروب، فإن الحقيقة تظل أنه لم يتردد في إعطاء الضوء الأخضر لهجمات رفيعة المستوى خلال الأشهر الثمانية القصيرة التي قضاها في منصبه، بحسب قراءة العديد من الخبراء ومراكز الدراسات.
على سبيل المثال، في شهر يونيو/حزيران، أمر ترامب القوات الجوية الأمريكية بقصف المواقع النووية الإيرانية "عملية مطرقة منتصف الليل" بقاذفات بي-2 سبيريت، باستخدام قنابل اختراق المخابئ الضخمة من طراز جي بي يو-57 (MOP).
وشهد هذا الحدث المرة الأولى التي تهاجم فيها الولايات المتحدة إيران والاستخدام الأول على الإطلاق لقنابل GBU-57 MOP.
وسلط الحدث الضوء على أنه على الرغم من خطابه السلمي، فإن ترامب قادر على القيام بعمل عسكري غير مسبوق، مثل مهاجمة الأراضي الإيرانية، وهو العمل الذي فكر فيه كل رئيس أمريكي منذ جيمي كارتر، لكن لم ينفذه أحد.
وبالمثل، أمر ترامب بشن غارات جوية على تجار مخدرات مزعومين في منطقة البحر الكاريبي، يُزعم ارتباطهم بفنزويلا، في ترجح التقارير إمكانية شن عمل عسكري شامل ضد فنزويلا في أي وقت.
علاوة على ذلك، يهدد ترامب أيضًا بالتحرك عسكريًا ضد نيجيريا.
ففي رسالة ساخنة على حسابه في منصته "Truth Social" مؤخراً، كشف ترامب أنه أصدر تعليماته إلى البنتاغون بإعداد إستراتيجية هجوم محتملة على نيجيريا، بعد يوم واحد فقط من تأكيده أن المسيحية "تواجه تهديداً وجودياً" في أكبر دولة من حيث عدد السكان في أفريقيا.
وفي منشوره، قال ترامب إنه إذا لم تُوقف نيجيريا عمليات القتل، فإن الولايات المتحدة ستهاجم "وستكون سريعة ووحشية وحلوة، تمامًا كما هاجمت العصابات الإرهابية مسيحيينا الأعزاء"، على حد تعبيره.
وهناك عامل آخر يغذّي ارتفاع أسهم الدفاع، بحسب خبراء مراكز الدراسات، وهو دمج الذكاء الاصطناعي في منصات الدفاع، والذي يعتقد المستثمرون أنه سيفتح قيمة جديدة للمساهمين.
فوق كل هذا أشار ترامب أيضًا إلى أن الولايات المتحدة قد تستأنف تجارب الأسلحة النووية.
وبالإضافة إلى ذلك، يتوقع المستثمرون أنه في السنوات المقبلة، فإن الإنفاق الدفاعي المتزايد من جميع أنحاء العالم سستمر في استمرار تدفق الطلبات الجديدة، والتدفق النقدي إلى شركات الدفاع.
وبحسب "بلومبرغ"، بدأ محللو وول ستريت في دمج هذه النتائج في توقعاتهم للأرباح، والتي تشير إلى أن أرباح قطاع الطيران والدفاع لكل سهم ستقفز بنسبة 56% هذا العام، و22% في عام 2026، و16% في عام 2027.
ومع ذلك، في حين يستفيد المستثمرون الأفراد من الارتفاع في أسهم الدفاع، فإن طريقة أخرى للنظر إلى هذا الارتفاع غير المسبوق قد تكون أن المستثمرين يتوقعون أن يصبح العالم أكثر سخونة خلال السنوات المقبلة.