أعاد العرض الروسي الأخير فتح جرح لم يلتئم بعد في الصراع الأوكراني، خاصة بعد مكالمة الرئيس فلاديمير بوتين مع نظيره الأمريكي دونالد ترامب منتصف أكتوبر، التي لم تكن مجرد تواصل دبلوماسي، بل محاولة لإعادة رسم خرائط شرق أوكرانيا عبر صفقة تقضي بتنازل كييف عن دونيتسك مقابل إنهاء الحرب.
ووفقًا لصحيفة "واشنطن بوست"، اقترح بوتين أن تتخلّى أوكرانيا عن السيطرة الكاملة على دونيتسك مقابل تنازلات روسية في زابوروجيا وخيرسون، في صيغة اعتبرتها أوساط غربية "مبادلة غير متكافئة" تهدف لترسيخ النفوذ الروسي في المنطقة الشرقية.
ورغم أن ترامب لم يعلن موقفًا رسميًا، مارس مبعوثه الخاص ستيف ويتكوف ضغوطًا مباشرة على الوفد الأوكراني لتسليم دونيتسك، مبررًا أن المنطقة "ناطقة بالروسية" وتمثل صلة تاريخية وثقافية بموسكو، فيما أعلن ترامب، لاحقًا، عن لقائه المرتقب مع بوتين في المجر، خلال الأسابيع المقبلة، لمواصلة النقاش حول إنهاء الحرب.
لكن كييف كانت حاسمة في موقفها، حيث أكد الرئيس فولوديمير زيلينسكي أن أوكرانيا لن تقدم أي تنازلات تمس سيادتها، مشددًا على أن الانسحاب من أي أرضٍ خاضعة للجيش الأوكراني "غير دستوري"، وسيشكل نقطة انطلاق لهجوم روسي جديد".
وتكتسب دونيتسك أهمية إستراتيجية كونها خط الدفاع الأهم في الجبهة الشرقية، إذ تمنع التوغل الروسي نحو عمق الأراضي الأوكرانية، فضلاً عن احتوائها على أكبر حصة من الثروات المعدنية والصناعية للبلاد.
وفي الوقت الحالي، تسيطر روسيا على نحو 20% من أراضي أوكرانيا، فيما تحتفظ كييف بنحو 30% فقط من دونيتسك، التي أصبحت رمزًا لصمودها في وجه الحرب.
وقال د. محمود الأفندي، المحلل السياسي والخبير في الشؤون الروسية، إن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي لا يزال تحت ضغوط أوروبية كبيرة، مؤكدًا أن التوجه السائد في واشنطن، حاليًا، يركز على تجميد الصراع عند خطوط التماس، تمهيدًا لبدء حل سياسي قد يؤدي إلى اتفاق عبر المفاوضات.
وأوضح الأفندي لـ"إرم نيوز" أن هناك مناطق تقع خارج المقاطعات الأربع الخاضعة لسيطرة موسكو (لوغانسك، دونيتسك، زابوروجيا، وخيرسون)، مثل خاركيف ودنيبرو، يمكن أن تكون محل "انسحاب متبادل"، بحيث تنسحب أوكرانيا من أجزاء من دونباس مقابل تنازلات روسية في مناطق أخرى، وعند التوصل إلى هذا التفاهم، سيصدر مجلس الأمن قرارات لتثبيت اتفاق وقف النار مع نشر قوة دولية للمراقبة.
وأكد الخبير أن زيلينسكي عاد من واشنطن تحت ضغط أوروبي جعله يتراجع عن المسار الأمريكي، لكنه في النهاية "سيوافق عاجلًا أم آجلًا" على المقترحات، لأن القرار الحقيقي ليس بيده بل بيد الأوروبيين، فيما اكتفت واشنطن بتقديم فكرتها وانتظار الموقف الأوروبي.
وأشار الأفندي إلى أن زيلينسكي أدرك خلال لقائه بترامب حجم الانهيار الذي يواجهه الجيش الأوكراني، خاصة بعد طلبه صواريخ بعيدة المدى، إذ أصبح واضحًا أن الجيش قد ينهار خلال أسابيع إذا لم تتوقف الحرب، لا سيما في مناطق بتروفسك وكريستالنيسك.
وأضاف أن خيار زيلينسكي صعب، إما إيقاف القتال أو الاستمرار تحت ضغط الأوروبيين، لكنه على الأرجح سيقبل بالحل بعد القمة المرتقبة بين بوتين وترامب في بودابست.
بدوره، قال رامي القليوبي، أستاذ الاستشراق في المدرسة العليا للاقتصاد بموسكو، إن زيلينسكي كان محقًا في تأكيده أن أوكرانيا لم تقدّم أي هدايا لروسيا، لكنه لم يستبعد إمكانية تقديم "تنازلات" ضمن أي صفقة محتملة لوقف الحرب.
وأضاف لـ"إرم نيوز" أن هناك مناطق في شرق أوكرانيا لن تتمكن كييف من استعادتها، مثل دونيتسك التي يسيطر الروس على نحو 80% من أراضيها، ولوغانسك التي تجاوزت السيطرة الروسية فيها 99%، بالإضافة إلى شبه جزيرة القرم التي أصبحت تحت السيادة الروسية الكاملة منذ ضمّها رسميًا.
وأشار القليوبي إلى أن المفاوضات المقبلة قد تتناول هذه المناطق، وربما يتمسك زيلينسكي ببعض المدن الرمزية مثل كريمينا وتورشك، لكن في حال رفض التسوية، فإن سيناريو حرب الاستنزاف سيستمر.
وأوضح أن روسيا مهيأة تمامًا لهذا السيناريو، بموارد عسكرية وبشرية ومالية تفوق ما لدى أوكرانيا، ما يمنحها القدرة على الصمود طويلًا.