logo
العالم

مع تراجع اليسار التقليدي.. صعود "قطبي التطرف" يربك أوروبا

رئيسة الوزراء الدنماركية ميتي فريدريكسن بتجمع انتخابي في...

يرى متابعون للشأن السياسي الأوروبي، أن نتائج الانتخابات المحلية الدنماركية تشير بشكل واضح إلى عمق الأزمة الهُويّاتية التي يعيشها اليسار التقليدي، ليس فقط في مستوى الدنمارك، بل أيضًا في مستوى القارة الأوروبية برمتها.

ومُني اليسار الكلاسيكي الدّنماركي بخسارة فادحة في انتخابات البلديات والأقاليم، حيث خسر السيطرة على بلدية العاصمة كوبنهاغن لأول مرة منذ 1903، خسارة ثقيلة يرجعها المتابعون إلى الأزمة السياسية والهُويّاتية التي يمرّ بها اليسار التّقليدي في أوروبا، وسط تصاعد اليمين المتطرف من جهة وأقصى اليسار من جهة ثانية.

وجاءت نتائج انتخابات البلديات والأقاليم مخيبة لآمال وانتظارات حزب الاشتراكيين الديمقراطيين، حيث خسر أكثر من خمس نقاط مقارنة بالانتخابات السابقة في 2021، مسجلًا تراجعًا كبيرًا من 28.4% إلى 23.2% في انتخابات 2025.

وحيال هذا المستجد الانتخابي، اعترفت رئيسة الوزراء الدنماركية ميته فريدريكسن بتراجع حزبها الكبير وأنه كان أكبر مما كنا نتوقعه، مرجعة سبب الخسارة إلى ارتفاع أسعار الغذاء والتفاوت بين المناطق الريفية والحضرية والجرائم التي يقترفها المهاجرون.

كما سجّل حزب الشعب اليميني المتطرف ارتفاعًا نسبيًا في الخزان الانتخابي حيث تقدّم من 4.09 في 2021 إلى 5.9 في 2025.

وتُجرى الانتخابات المحلية الدنماركية كل يوم ثلاثاء في الأسبوع الثالث من شهر نوفمبر/ تشرين الثاني من كل 4 سنوات.

أخبار ذات علاقة

رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر

كلمة السر "ستارمر".. لماذا يخسر اليسار الفرنسي ناخبيه؟

كوبنهاغن المعيار والمحرار الانتخابي

وفي العرف الانتخابي الدنماركي تعتبر مدينة كوبنهاغن "بيضة القبان" في المشهد السياسي، والميزان الحقيقي لموازين القوى الحزبية في البلاد.

ولئن كان منصب العمدة محتكَرًا لليسار التقليدي قبل 2025، فإنّ تقسيم المقاعد الـ55 بين القوى السياسية الدنماركية كان معيارًا ومحددًا دقيقًا لطبيعة المشهد السياسي في البلاد.

وتشير الإحصائيات والنسب الأولية الصادرة إلى تقدم كبير لليسار الراديكالي (تحالف أحمر–أخضر) بـ12 مقعدًا وبنسبة أصوات قاربت 22.1%، ثم "الاشتراكيين الديمقراطيين" بـ10 مقاعد بنسبة 17.9%، ثم "اليسار الأخضر" بـ9 مقاعد بنسبة 16.1%، ثم حزب فينسترا (اليمين) بـ7 مقاعد بنسبة 12.5%، وأخيرًا حزب الشعب المحافظ بـ5 مقاعد بنسبة 8.5% من الأصوات.

وعلى هذا الأساس، فازت السياسية سيسه ماري ويلينغ من حزب "اليسار الأخضر" بمنصب عمدة العاصمة كوبنهاغن، بعد حصولها على 17.9% من جملة الأصوات.

وفشلت في المقابل بيرنيل روزينكر انتر–ثيل، وهي الصديقة المقربة من رئيسة الوزراء، والتي يُعتقد أنّ الأخيرة اختارتها للترشح لهذا المنصب، في الحصول على الأصوات اللازمة.

أزمة بنيوية لليسار التقليدي في أوروبا

ويرى الخبراء أن اليسار التقليدي في أوروبا يعيش أزمة هُوية حقيقية، تعود أسبابها إلى فقدان العناوين السياسية والاقتصادية والاجتماعية الكبرى التي يدافع عنها، في ظلّ تصاعد قوى اليمين المتطرف، وخاصة صعود أقصى اليسار الذي نجح إلى حد كبير في سحب بساط الشرعية منه.

وبمقتضى هذا التشرذم بين يمين متطرف مركز على قضايا الهُوية والهجرة والاقتصاد الحرّ، وبين أقصى يسار يسلط اهتمامه على مسائل العدالة الاجتماعية والقضايا البيئية والمناخية والمساواة بين المواطنين وحقوق المهاجرين والأقليات، صار اليسار التقليدي يعيش أزمة هُوية وأزمة مشروع.

ويستدل الخبراء والمتابعون على صحة هذا التصور بالخطاب السياسي لرئيسة الوزراء الدنماركية الحالية، التي — على الرغم من انتمائها لليسار التقليدي — تتبنّى خطابًا متشنجًا ضدّ المهاجرين واللاجئين، وهو خطاب أقرب إلى اليمين المتطرف منه إلى القوى التقدمية.

ووفقًا لذات المتابعين، فإنّ جزءًا من أسباب خسارة الانتخابات المحلية في الدنمارك يعود إلى السياسة المتصلبة التي تعتمدها رئيسة الوزراء حيال ملف الهجرة، الأمر الذي جعل الكثيرين من المصوّتين في كامل أنحاء الدنمارك وخاصة في العاصمة كوبنهاغن، يتوجهون لأقصى اليسار (الخضر + تحالف أحمر–أخضر).

وبحسب القراءة ذاتها، فإنّ اليسار التقليدي الدنماركي يعيش حالة من التهجين السياسي، والاغتراب الهُويّاتي الإيديولوجي، حيث عجز عن تأمين الأهداف الأساسية لليسار من تقليص نسب الفقر والحد من التضخم والاهتمام بالطبقات الفقيرة والمتوسطة والاعتناء بالمطالب الأساسية وعلى رأسها الصحة والتعليم والتقليل من التفاوت بين المناطق والمدن، في مقابل تبنيه شبه الكامل للمقاربات اليمينية المتطرفة في قضايا الهجرة والأقليات، وهو ما جعل الخزان الانتخابي لليسار التقليدي يتوجه إلى يسار آخر.

أخبار ذات علاقة

فون دير لايين: الأحزاب اليمينية المتطرفة تحاول "تدمير" و"تخريب" أوروبا

أقرب إلى الوسط منه إلى اليسار

ويعتبر المراقبون للشأن السياسي الأوروبي أنّ اليسار الكلاسيكي بات اليوم في أمسّ الحاجة لمراجعات سياسية عميقة تعيد تموقعه في المشهد السياسي.

ويرون في هذا السياق، أنّ تبنّي اليسار التقليدي لاقتصاد السوق دون ضمانات اجتماعية واقتصادية قوية، مع اقترابه من المحافظين في قضايا الهجرة واللجوء والأقليات تحت مسمى الثقافة والسيادة الوطنية، جعله أقرب ما يكون إلى الوسط منه إلى اليسار.

كما أن تحفظه الشديد في مستوى القضايا المناخية والبيئية (بالنظر لدعمه للخيارات التصنيعية)، وتردده في الدفاع عن حقوق الأقليات، وابتعاده التدريجي عن تصورات الاقتصاد الاجتماعي التضامني، واختياره للمناطق الرمادية الآمنة في القضايا الدولية الكبرى — على غرار القضية الفلسطينية — سمح لأطراف يسارية أخرى بالظهور وبتبني كل هذه المطلبيات ضمن خطاب سياسي واضح وثوري وصريح.

وبمقتضى هذا الواقع، تغيّرت المشهديات السياسية والحزبية في الكثير من الدول الأوروبية، إلى أقصى يسار، وأقصى يمين، ووسط يحتوي على وسط يميني ووسط يساري، وهو ما يفسر — وفق أقوال المتابعين والخبراء — تآكل الشعبيات الانتخابية والشرعيات السياسية لليمين الكلاسيكي واليسار التقليدي، واللذين يتبوآن اليوم مراتب متأخرة في الانتخابات التشريعية والرئاسية والمحلية، مقابل تقدم قوى اليمين المتطرف وأقصى اليسار.

أمثلة أوروبية عديدة

في هذا السياق، يؤكد المراقبون أنّ القارئ للمشهديات السياسية في أوروبا يرصد حالة التآكل شبه التام التي عليها اليسار التقليدي، مقابل تقدم قوى أقصى اليسار.

ففي فرنسا مثلًا، تأخر "الحزب الاشتراكي" في الانتخابات البرلمانية الأخيرة في 2024 مكتفيًا بـ65 مقعدًا نيابيًا، ولم يصل أي من مرشحي الحزب في الاستحقاق الرئاسي إلى الجولة الثانية منذ الرئيس فرانسوا هولاند، الذي اختار في 2017 الاكتفاء بعهدة رئاسية واحدة.

كما يوصف أداء الحزب الاشتراكي في البرلمان الفرنسي الحالي بالمتردد بين تأييد ماكرون ومعارضته؛ فمن جهة "الحزب" جزء من تحالف يساري واسع تحت مسمى "الجبهة الشعبية الجديدة"، ومن جهة ثانية عارض الحزب كافة محاولات سحب الثقة التي قدّمها نواب "فرنسا الأبية" ضد الحكومة الجديدة برئاسة سيباستيان لوكورن ومنعوا إسقاطها واستحضار سيناريو حكومة فرانسوا بايرو.

أخبار ذات علاقة

من جلسة للجمعية الوطنية الفرنسية

اليسار يصوت لصالح لوبان.. ضريبة الثروة توحد الخصوم في البرلمان الفرنسي

هجانة اليسار في ألمانيا وإيطاليا

في السياق ذاته، يطرح الخبراء أسئلة حول الهوية السياسية لحزب اليسار الألماني (دي لينكه)، والذي يعتبر سليل الأحزاب اليسارية التقليدية الكبرى، حيث تأسس في 2007 بعد اندماج حزب الاشتراكية الديمقراطية — الحزب الخليفة لحزب الوحدة الاشتراكية في ألمانيا الشرقية — وحزب البديل الانتخابي للعمل والعدالة الاجتماعية في ألمانيا الغربية.

وعلى الرغم من وجوده في الائتلاف الحاكم في ألمانيا اليوم، إلا أن الحزب يعاني من انحدار في الشعبية وتراجع في أحجامه النيابية.

ويرصد المتابعون انزياحًا من الحزب نحو تبني أطروحات يمينية متطرفة؛ فالحزب الذي عُرف بمعارضته للعسكرة وللناتو، صار منخرطًا في الحرب ضد روسيا، ومؤيدًا لتسليح أوكرانيا من ميزانيات الدول الأوروبية، ومناديًا بأدوار متقدمة للناتو في المواجهة القائمة في أوكرانيا، ومطالبًا بانضمام فنلندا والسويد إلى الأطلسي.

ونقلت مصادر إعلامية عن باتريك كوبيلي، زعيم الحزب الشيوعي الألماني، قوله إن حزب "دي لينكه" انقلب على اليسار.

أما في إيطاليا، فاليسار التقليدي ممثلًا في الحزب الديمقراطي، والذي يعاني كثيرًا من فشله الذريع في توحيد اليسار الإيطالي وفي تثبيت نفسه كبديل سياسي عن الأحزاب اليمينية المتطرفة الحاكمة في روما اليوم، يعيش أزمات سياسية ومالية قد تعصف بشعبيته وتزيد من حدّة الأزمة التي يمرّ بها.

ويمكن في هذا السياق ذكر حالة "حزب العمال البريطاني"، والذي — على الرغم من رئاسته للوزراء في بريطانيا — خسر الكثير من شعبيته لدى الطبقة العاملة وفي معاقله التاريخية (الجدار الأحمر) لصالح حزب المحافظين، وذلك بسبب موقفه من الخروج من الاتحاد الأوروبي.

حيال كل ما سبق من الواضح أنّ اليسار التقليدي في أوروبا يعيش أزمة هيكلية وبنيوية، تفترض مراجعات عميقة تمسّ كافة الجوانب الاقتصادية والسياسية والثقافية، وتعيد طرح الأولويات وصياغة الأفكار والتصورات، لا من باب المناكفة مع أقصى اليسار ولا من باب التمايز عن اليمين، بل من باب طرح هوية واضحة متصالحة مع إرثه السياسي والفكري والحضاري، ومن زاوية استقطاب أصوات انتخابية شبابية تنتظر من اليسار أن يكون يسارًا حقيقيًا، لا نسخة هجينة من يمين، ولا نسخة مستنسخة عن الوسط.

logo
تابعونا على
جميع الحقوق محفوظة © 2025 شركة إرم ميديا - Erem Media FZ LLC