في وقت تواجه فيه أوروبا تحديات اجتماعية وسياسية كبيرة، يبدو أن إدارة ملف الهجرة باتت مفتاحًا لنجاح أو فشل الأحزاب اليسارية.
فبينما نجح اليسار البريطاني بقيادة رئيس الوزراء كير ستارمر في جذب الثقة الشعبية عبر سياسات هجومية وواقعية، يجد اليسار الفرنسي نفسه متخبطًا، عاجزًا عن معالجة الأزمة بشكل ملموس؛ ما يؤدي إلى فقدان الدعم الشعبي، خصوصًا بين الطبقات العاملة.
واقع الهجرة في بريطانيا وتأثيره السياسي
وأوضحت صحيفة "لو جورنال دو ديمانش" أن حكومة ستارمر واجهت بعد وصوله إلى السلطة صيف 2024 واقعًا صعبًا، يتمثل بوصول أكثر من 39 ألف مهاجر إلى السواحل البريطانية منذ بداية العام، متجاوزًا أعداد العام الماضي.
هذا الواقع أشعل أزمة سياسية حادة، مع احتجاجات أمام فنادق طالبي اللجوء وتصاعد شعبية حزب نايجل فاراج، إلى جانب مظاهرات مناهضة للهجرة في لندن؛ ما جعل هذا الملف مسألة سياسية مركزية لا يمكن تجاهلها.
إصلاحات صارمة مستوحاة من الدنمارك
وردًا على ذلك، أطلقت الحكومة البريطانية إصلاحات واسعة، تضمنت تقليص الحماية الممنوحة للاجئين بحيث يُطلب منهم العودة إلى بلادهم بمجرد اعتبارها "آمنة"، وإلغاء الوصول التلقائي للمساعدات الاجتماعية لطالبي اللجوء.
النظام الجديد، المستوحى من النموذج الدنماركي، اختصر مدة الإقامة ووسع فترة الحصول على الإقامة الدائمة، مع ربط إمكانية التسريع بالعمل أو الدراسة. وقد اعتبرت وزيرة الداخلية شبانة محمود، وهي من أصول باكستانية، أن هذه الإجراءات تمثل "واجبًا أخلاقيًا" لمواجهة الهجرة غير النظامية التي تثير توترات اجتماعية وتضغط على النظام العام.
اليسار الفرنسي بين التردد والانحراف
ورغم الجدل حول فعالية هذه السياسات، فإن اليسار البريطاني أظهر شجاعة في مواجهة ملف الهجرة، وهو أمر يُعتبر حدثًا سياسيًا مهمًا. ووفقًا للصحيفة، في المقابل يظهر اليسار الفرنسي مترددًا، حيث يقتصر نقاشه على مهاجمة "اليمين المتطرف" فقط، مع رفض أي حديث عن ضبط أو تقليص تدفقات الهجرة، خوفًا من اتهامه بالعنصرية.
وأكدت أن هذا الموقف يمثل انحرافًا عن التقاليد التاريخية لليسار الفرنسي، الذي كان يجمع بين الإنسانية والصرامة، فقد كان جورج مارشيه ينتقد الهجرة المفرطة العام 1981، كما دافع جان-بيير شيفانيو عن جمهورية مرحبة لكنها تحافظ على سيادتها وحدودها.
فقدان الصلة بالطبقات الشعبية
كما بينت أن غياب الاعتراف بالواقع الاجتماعي أدى إلى فقدان اليسار الفرنسي صلته بالطبقات الشعبية، حيث يشعر أكثر من نصف العمال بأنهم مهمشون؛ ما يفسر توجههم نحو حزب التجمع الوطني ليس بدافع الكراهية، بل بدافع الإحساس بالتخلي عنهم.
في المقابل، تظهر التجارب الأوروبية الأخرى أن اليسار يمكنه الجمع بين التقدمية والسيادة الوطنية. في الدنمارك وبريطانيا، تبنت الأحزاب الاشتراكية سياسات هجرة صارمة لكنها إنسانية، وأثبتت أنها مفيدة سياسيًا.
دعوة لإعادة التفكير
ونقلت عن المحلل السياسي بول ميلون أن اليسار الفرنسي بحاجة إلى إعادة التفكير في سياساته عبر اعتماد سياسة هجرة صارمة وواقعية تعمل بالتعاون مع دول المصدر، وإعادة تنظيم القدرة على استقبال اللاجئين والمهاجرين بما يضمن فعالية الدعم الاجتماعي، وتعزيز مفهوم الأمة كإطار ضروري لتنظيم التضامن وإدارة الهجرة بشكل عادل.
ورأت أن نجاح ستارمر يمثل نموذجًا لليسار المسؤول الذي يواجه الهجرة دون التنازل عن قيمه، بينما يظل اليسار الفرنسي مترددًا خلف الشعارات والمواقف الأخلاقية؛ ما يؤدي إلى فقدان ثقة ناخبيه، خاصة بين الفئات الشعبية.