أجمع خبراء في الشأن اللاتيني على أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يتبنى رهانات حاسمة لإسقاط نظام الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو بعيداً عن كلفة الحروب الشاملة. وتتمثل هذه الاستراتيجية في تجريد نظام كراكاس من أدوات البقاء الاقتصادية والأمنية عبر خنق شرايينه الحيوية، وتحديداً في قطاعي النفط والنقل البحري.
ويرى الخبراء أن الحصار القائم حالياً، والمقترن بضربات بحرية محدودة، ليس مجرد إجراءات عشوائية، بل هو تطبيق عملي لعقيدة "الضغط البحري الأقصى"؛ وهي سياسة تهدف إلى عزل فنزويلا كلياً عن الأسواق الدولية، وتحويل مياه الكاريبي إلى "كمين استراتيجي" يستنزف قدرات النظام ويجبره على الانهيار من الداخل تحت وطأة الحرمان المادي.
وبين الخبراء في تصريحات لـ"إرم نيوز"، أن الرئيس الجمهوري يعمل على تحويل المواجهة مع كراكاس إلى معركة شرعية دولية وأخلاقية، عبر حصر نيكولاس مادورو في إطار رئيس تنظيم دولي للمخدرات، وتجريده من صفة الخصم السياسي. بهدف منح العمليات العسكرية الأمريكية المحدودة غطاءً قانونيًا.
وبالتوازي مع ذلك، يسعى ترامب إلى حصر الأزمة في شخص مادورو وفريقه المقرب، بدلاً من الصدام المباشر مع الحزب الاشتراكي الموحد؛ وهي مناورة تهدف إلى العزف على أوتار الانشقاقات الداخلية، ودفع قيادات الجيش والدوائر السياسية في فنزويلا إلى مراجعة حسابات الولاء. ومن خلال هذا الضغط الناعم، يراهن البيت الأبيض على تحقيق تغيير جذري في موازين القوى الداخلية، وصولاً إلى إسقاط النظام بأقل كلفة عسكرية ممكنة.
يأتي ذلك في الوقت الذي دعا فيه الرئيس الأمريكي مؤخرا، مادورو إلى التنحي عن منصبه، واصفًا ذلك بأنه سيكون من "الحكمة" في ظل ما اعتبره إخفاقات إدارته المستمرة منذ 12 عامًا.
وقال ترامب في تصريحات أمام الصحفيين في منزله بفلوريدا، إن القرار النهائي متروك لمادورو، لكنه أشار إلى أن التنحي سيجنب كاراكاس المزيد من الضغوط والعقوبات، مؤكدًا أن واشنطن ستواصل حماية مصالحها الإقليمية.
ويؤكد الباحث الاستراتيجي هشام معتضد، أن أول ما يسعى إليه ترامب هو تجريد نظام مادورو من أدوات البقاء الاقتصادية والأمنية عبر خنق شرايينه الحيوية، لا سيما قطاع النفط والنقل البحري، في ظل الحصار المفروض على ناقلات النفط، والضربات البحرية المحدودة، التي ليست إجراءات عشوائية، بل هي جزء من عقيدة "الضغط البحري الأقصى" التي تعتمد على السيطرة على خطوط الإمداد بدل السيطرة على الأرض، وتعطيل تدفق العائدات النفطية.
وأضاف معتضد في تصريح لـ"إرم نيوز"، أن ترامب يعمل على تحويل المواجهة إلى معركة شرعية دولية وأخلاقية، عبر تأطير مادورو ليس كخصم سياسي بل كـ"رأس تنظيم دولي للمخدرات" مما يفتح الباب قانونيًا لتبرير عمليات عسكرية محدودة، ويُسهّل بناء تحالفات أمنية إقليمية، ويُخرج أي تصعيد من خانة "الحرب بين الدول" إلى خانة "مكافحة الجريمة العابرة للحدود"، وهي بيئة أكثر راحة للمؤسسة العسكرية الأمريكية.
وبحسب معتضد فإن تجنّب الحرب البرية، من منظور البنتاغون، ليس تعبيرًا عن ضعف، بل عن نضج استراتيجي، حيث إن أي تدخل بري في فنزويلا، بجيشها المترهل وتضاريسها المعقدة، سيحوّل العملية إلى حرب استنزاف طويلة، لذلك تُفضّل واشنطن نموذج "الضغط التراكمي" من خلال ضربات محدودة وحصار اقتصادي وعمليات ردع وانتظار تشققات داخلية في النظام أو في الدائرة الأمنية المحيطة بمادورو.
ويشير معتضد إلى أن من الزاوية العسكرية البحتة، فإن الضغط الحالي هو حرب أعصاب محسوبة، في ظل إدراك البنتاغون أن الأنظمة السلطوية غالبًا لا تسقط بالضربة القاضية، بل بتآكل الشرعية، وتفكك شبكات الولاء، وانهيار القدرة على دفع الرواتب وتمويل الأجهزة، في حين أن الحصار البحري والاقتصادي يُسرّع هذا التآكل، ويضع مادورو أمام خيارين أحلاهما مر، إما التنازل أو تحمّل انفجار داخلي، قد لا يستطيع احتواءه.
واستكمل أن ترامب يدرك أن التراجع الكامل دون مكسب واضح سيُفسَّر كهزيمة، ليس فقط أمام مادورو، بل أمام خصوم واشنطن عالميًا، لذلك يسعى إلى منطقة رمادية بين الحرب والسلام، وتصعيد يكفي لفرض الوقائع، لكنه لا يصل إلى نقطة اللاعودة، وهذا ما يجعل كل الخيارات "مفتوحة" نظريًا، لكنها مغلقة عمليًا أمام الحرب البرية الشاملة.
ويعتقد معتضد أن الحسابات الاستراتيجية تقول إن ترامب لا يريد إسقاط كاراكاس بالدبابات، بل إخضاعها بالبحر والاقتصاد والضغط النفسي، وإنه يبحث عن نصر يمكن الإعلان عنه، لا عن احتلال يجب الدفاع عنه، وفي ميزان البنتاغون، فإن هذا النوع من الانتصارات، غير الكاملة لكن القابلة للتسويق، أصبح أكثر قيمة من الحروب الكلاسيكية المكلفة، خاصة في عالم متعدد الأزمات والخصوم.
وبدوره، يقول الباحث في الشأن اللاتيني، علي فرحات، إن قرار الحرب يحتاج بالضرورة إلى موافقة من الكونغرس، وذلك في ظل تعقيدات كبيرة داخل الولايات المتحدة، لا تقتصر على الحسابات العسكرية فحسب، بل تشمل أيضًا حسابات سياسية، بعضها يتعلق مباشرة بالرئيس ترامب.
وأوضح فرحات في تصريح لـ"إرم نيوز"، أنه عندما وصف ترامب النظام الفنزويلي بأنه "منظمة إرهابية"، فقد قام بغلق أي طريق أو إمكانية للحوار مع مادورو، لافتا إلى أن فرض الحصار الشامل والخانق على كراكاس، سواء البحري أو البري، يعكس إدارة الولايات المتحدة لعملية انهيار اقتصادي تهدف في نهاية المطاف إلى إسقاط النظام هناك.
وبين فرحات أن المسألة تبدو وكأنها أصبحت شخصية أكثر مع نيكولاس مادورو، وليس مع الحزب الاشتراكي الموحد، حيث يلعب ترامب على هذا الوتر بهدف إحداث انشقاقات داخلية، وخلق حسابات جديدة لدى القيادات الفنزويلية والجيش في كراكاس.
وتابع فرحات بالقول إنه حتى الآن لا توجد مؤشرات على أن ترامب منفتح على صيغة حل مع مادورو، لأنه يعلم أن الأخير قد لا يكون قادرًا على تلبية الطموحات الأمريكية، التي لا تقتصر على إعادة العلاقات فقط، بل تمتد إلى حد السيطرة على فنزويلا من الناحية الاقتصادية.
ولفت إلى وجود معلومات تتحدث عن أن رفض الإكوادور، عبر استفتاء شعبي، إقامة قاعدة عسكرية أمريكية على أراضيها، يعكس طبيعة طموحات واشنطن في المنطقة، بتحقيق هذا المسعى في حال وجود إدارة فنزويلية خاضعة لها، خاصة أن الجميع يعلم أن كراكاس تشكل "كماشة" جغرافية بين كولومبيا والبرازيل، نظرًا لاتساع حدودها مع البلدين.
واعتبر فرحات أنه حتى الآن لا توجد مؤشرات واضحة على تغير في الموقف الأمريكي، إلا إذا أقدم نيكولاس مادورو على استسلام كامل، عندها فقط يمكن لترامب أن يعيد النظر في هذه المسألة، ولكن هناك حسابات أخرى سياسية، قد تجعل الذهاب إلى هذه الصورة أمرا صعبا.