تطوّر الصراع الإسرائيلي - الإيراني ليُصبح اختبارًا لتوازن القوى الاستراتيجي، ليس في الشرق الأوسط فحسب، بل على مستوى النظام الدولي برمّته. وبينما لا تزال مآلات "معركة كسر العظم" بين طهران وتل أبيب غامضة حتى الآن، تتجه قراءات عديدة إلى القول إن هذه المواجهة قد تُفضي إلى نتائج "كارثية"، يُحتمل أن تنتهي بالندم لأحد الطرفين أو لكليهما معًا.
ووفقًا لتقارير إسرائيلية وغربية، فإنه بعد أسبوع على اندلاع المواجهة، شنّت إسرائيل ضربات ناجحة على مواقع دفاعية ومنشآت عسكرية حساسة في غرب إيران، ما أدى إلى تعطيل تلك المناطق وإجبار الحرس الثوري الإيراني على إعادة تمركزه في وسط البلاد، بين أصفهان وطهران.
ويرى خبراء أن هذا الانتقال لم يكن تكتيكيًا فحسب، بل استراتيجيًا، إذ أصبحت إيران مضطرة لاستخدام صواريخ متوسطة إلى بعيدة المدى، تتميز بدقة إصابتها، وحمولتها المتفجرة، وقدرتها على مناورات منظومة "القبة الحديدية"، غير أن هذه الصواريخ تتطلب كلفة تشغيلية أعلى وسلسلة لوجستية أعقد، ما يضع إيران أمام تحدٍ مستمر في تحقيق التوازن بين الذخيرة المتوفرة وإطالة عمر المواجهة.
المخزون الصاروخي.. بين الكلفة والفاعلية
وأطلقت إيران خلال الأسبوع الماضي نحو 450 صاروخًا باليستيًا ومئات الطائرات المسيّرة، تمكنت الدفاعات الإسرائيلية من اعتراض أكثر من 90% منها، بحسب مصادر إسرائيلية.
إلا أن تكلفة هذه الدفاعات كانت باهظة، إذ وصلت، وفق تقديرات أولية، إلى نحو 285 مليون دولار في ليلة واحدة، استنادًا إلى كُلفة تشغيل صواريخ "آرو" ومنظومات الاعتراض الأخرى.
في المقابل، تُشير تقارير الجيش الإسرائيلي إلى تدمير ما بين 35% إلى 40% من ترسانة إيران الصاروخية وقواعد إطلاقها، غير أن مراقبين يرون أن الجغرافيا الإيرانية تمنح طهران القدرة على تمويه ما تبقى من ترسانتها، سواء في ملاجئ تحت الأرض أم مناطق محصنة يصعب استهدافها.
ووفقًا لذلك، يرى محللون أن "الموارد" ستكون العامل الحاسم في تحديد مسار الحرب، فبالنسبة لإيران، فإن القدرة على تجديد تلك الموارد واستدعائها مع مرور الوقت تبقى نقطة القوة الأبرز.
أما إسرائيل، فبينما تتفوق بدعم خارجي هائل، فإنها تواجه تحديًا حقيقيًا في استنزاف منظومتها الدفاعية، وتحديدًا "القبة الحديدية"، التي بدأت تظهر مؤشرات على تراجع فاعليتها نتيجة كثافة الاستخدام.
3 مسارات محتملة
وبحسب الباحث والكاتب السوري مازن بلال، فإن تطورات الصراع تشير إلى ثلاثة مسارات محتملة:
المسار الأول، التوجّه نحو تهدئة جزئية، خصوصًا إذا استمرت إسرائيل في تلقي ضربات مؤلمة وتحملت أعباءً مالية متزايدة ومع تقليص قدرات إيران الصاروخية تدريجيًا، قد يتجه الأمريكيون إلى تقنين دعمهم العسكري والضغط نحو هدنة مؤقتة، في ظل استمرار المفاوضات بوتيرة بطيئة مع بقاء الضغط العسكري حاضرًا كورقة تفاوضية.
أما المسار الثاني، توسّع العملية العسكرية ليشمل هجومًا واسع النطاق، لا سيما في حال قررت الولايات المتحدة استخدام قنابل نووية تكتيكية من طراز B-61 لاستهداف منشآت نووية إيرانية مثل "فوردو" و"نطنز".
وسيناريو كهذا قد يؤدي إلى موجة من العنف تشمل مناطق نفوذ إيران في سوريا ولبنان، وربما تصعيد نووي استعراضي.
والمسار الثالث احتمال تحوّل داخلي في إيران نتيجة الضغوط الاقتصادية المتزايدة واستنزاف الترسانة الصاروخية.
وقد يؤدي ذلك إلى غضب شعبي عارم بدعم خارجي، يُحتمل أن تسهم إسرائيل في تغذيته داخل طهران، غير أن السيناريو الأرجح، حسب بلال، هو انقلاب داخلي تدريجي مدفوع من القاعدة الشعبية أكثر منه بفعل خارجي مباشر.
خيارات إيران.. محدودة
في ضوء هذه المعطيات، يرى بلال أن خيارات إيران تبقى محدودة، فإما أن تعود إلى طاولة التفاوض تحت الضغط، وإما أن تختار مواجهة عسكرية أوسع، وإما أن تواجه خطر انفجار داخلي يعيد تشكيل النظام.
ورغم ما يبدو من اختراق إسرائيلي عميق للأراضي الإيرانية، مدعومًا بتفوّق استخباراتي وهندسة ميدانية متقنة، فإن تعقيدات البنية السياسية الإيرانية، وتشعب منظومتها الأمنية واللوجستية، وامتداد نفوذها الإقليمي، يجعل من الصعب الحسم العسكري السريع ضدها، ويُبقي عامل الوقت المتغيّر الأهم في هذه المعادلة.
ويضيف بلال: "نحن أمام حرب هجينة حقيقية، تمتزج فيها العمليات الاستخباراتية الدقيقة، بالضربات الجوية المركّزة، ومنظومات الدفاع الأمريكية المتقدّمة، إسرائيل قد تنجح في تحييد بعض الأهداف وتدمير عدد من الصواريخ، لكنها عاجزة عن إسقاط النظام الإيراني بمفردها".
توازن العجز
من جهته، يرى الكاتب والسياسي السوري أنس جودة أن المواجهة بلغت ذروتها العملياتية دون أن تُفضي إلى حسم حقيقي، فالصراع الآن يدور حول من يصرخ أولًا لا من ينتصر أولًا.
ويضيف في تصريحات لـ "إرم نيوز" أن "المواجهة تحوّلت إلى حرب استنزاف مكشوفة، تكشف فيها الأطراف عن قدراتها التسليحية، في حين تتحوّل معادلة (عض الأصابع) بين الهجوم والدفاع إلى محور الحسم".
في هذا السياق، يرى جودة أن "المنتصر" في هذه الحرب هو ببساطة من يصمد دون انهيار، بينما "الخاسر" هو من يعجز عن تغيير الواقع أو فرض وقائع جديدة.
"حرب الوكلاء" مؤجلة
أما سيناريو "حرب الوكلاء" الذي كان مرجّحًا في وقت سابق، فقد بات مؤجّلًا أو محدود الأثر. فالوكلاء، كما يرى جودة، لا يملكون أوراق قوة حاسمة في هذا النوع من الحروب، واستخدامهم الآن قد يُسرّع من تدخل الولايات المتحدة عسكريًا، وهو ما تسعى طهران إلى تفاديه في هذه المرحلة.
ويعتقد جودة أن إيران، كلما طالت المرحلة الرمادية بين الضربات المتبادلة والقرار السياسي، ستستطيع الحفاظ على موقع "الصامد" في أي تفاوض، لكنها في الوقت ذاته، تُستنزف داخليًا وتفقد ما تبقى من شرعيتها أمام شعبها.
واشنطن "عالقة".. وتحالف دولي "ناعم"
يرى جودة أن الولايات المتحدة، التي اعتقدت أنها تتحكم بخيوط التصعيد وتوقيته، بدأت تفقد السيطرة، ويُشير إلى "الخطاب المتردد للرئيس ترامب، والانقسام داخل الحزب الجمهوري"، كدليل على أن واشنطن عالقة في مأزق صنعته بنفسها.
وفيما قد تقود التحركات العسكرية إلى ضربة موجّهة للمواقع النووية الإيرانية، فإن هذا الخيار يحمل في طياته مخاطر انفجار إقليمي شامل، أما التراجع، فسيُفقد واشنطن ما تبقى من هيبتها، على غرار تجربة "الخطوط الحمراء" في عهد أوباما.
كما يشير إلى تحالف روسي - صيني "ناعم" حتى الآن، لا يهدف لحماية النظام الإيراني بقدر ما يسعى إلى منع تفكك الدولة، ووضع "خطوط حمراء" مثل استهداف المرشد أو ضرب المنشآت النووية ليس لمنع الاستنزاف، بل لإطالة أمده، وتحجيم النفوذ الأمريكي في المنطقة.
خلاصة معادلة "الندم قادم"
في ختام تحليله، يؤكد جودة أن أي "نصر" إيراني سيكون باهظ الثمن، ويفتح الباب أمام تفكك داخلي قد يُشبه النموذجين العراقي أو السوري، وسيُجبر الغرب على تشارك النفوذ مع روسيا والصين لاحتواء الفوضى.
ويخلص إلى القول: "نحن اليوم أمام توازن هشّ لا يُنتج حلًا ولا يُنهي حربًا؛ فإيران عاجزة عن تحقيق انتصار عسكري حاسم، وإسرائيل لا تملك أدوات الحسم الاستراتيجي.