شرَعت كلٌّ من بنغلاديش وباكستان في إعادة ضبط علاقاتهما في خطوةٍ فاجأت المراقبين وأربكت الحسابات الإقليمية، بعد عقودٍ من الجفاء والتوتر، منذ حرب الاستقلال البنغالية العام 1971 وما خلّفته من جراح سياسية وإنسانية لم تلتئم بعد.
وبحسب "فورين بوليسي"، فإن وزير الخارجية الباكستاني، إسحاق دار، زار عاصمة بنغلاديش، دكا، خلال عطلة نهاية الأسبوع، في زيارةٍ استمرت يومَين، وخلال هذه الفترة التقى دار مسؤولين كبار من بينهم الرئيس المؤقت محمد يونس، ورؤساء عددٍ من الأحزاب السياسية، في زيارةٍ تُعدُّ الأولى لوزير خارجيةٍ باكستاني إلى بنغلاديش منذ العام 2012، حين زارت هينا رباني كهر، للبلاد لمدة 5 ساعات فقط.
ويرى مُراقبون أن هذا التقارب لا يُمكن قراءته كمجرد مصالحةٍ ثنائية بين بلدَين فرَّقتهما ذاكرة الحرب، بل يحمل في طياته دلالاتٍ أعمق قد تُغيّر موازين القوى في جنوب آسيا، خاصةً إذا ما جرى على حساب الهند، القوة التقليدية المهيمنة في المنطقة.
وفي سياق متصل، فإن الهند التي كانت الحليف الأبرز لبنغلاديش منذ ولادتها، تجِد نفسها، اليوم، أمام واقعٍ استراتيجي مقلق؛ فجارتها الشرقية التي لطالما شكّلت عمقًا استراتيجيًا لها، تفتح أبوابها أمام باكستان التي خاضت ضدَّها ثلاث حروبٍ دامية، وتُعيد إدماجها في معادلات الإقليم، وبالنسبة لنيودلهي، هذا التطور لا يُهدِّد حضورها السياسي والاقتصادي في دكا فحسب، بل يطرح أيضًا سؤالًا جوهريًا حول صلابة نفوذها التقليدي في محيطها الحيوي.
وبحسب التقرير، فإن الخلافات التاريخية بين بنغلاديش وباكستان، وعلى رأسها ملف الاعتذار عن مجازر العام 1971، لم تُحسم بعد، لكن براغماتية السياسة فرضت نفسها على أجندة الحكومتَين؛ فدكا تدرك أن تقاربها مع إسلام آباد يفتح أمامها فرصًا لتعزيز موقعها الإقليمي واستثمار التنافس بين نيودلهي وإسلام آباد لمصلحتها، أما باكستان، فهي ترى في الانفتاح على بنغلاديش فرصةً لفك عزلتها الإقليمية وكسْر الطوق الهندي الذي يحدّ من نفوذها شرقاً.
ويرى الخبراء أن خلف هذه الحسابات، تكمن حقيقة أكثر تعقيدًا؛ فالشعوب لم تنسَ، والذاكرة الجمعية البنغالية لا تزال مثقلةً بصور الحرب والانتهاكات، وأيُّ مصالحةٍ رسمية لن تكون قابلةً للحياة إذا لم تُدار هذه الجراح بحساسية وشفافية، وإلا فإنها قد تنفجر من الداخل في وجه أي حكومة تراهن على دفن الماضي.
وجاء في التقرير أنه من الضروري أن تكون التوقُّعات بشأن إعادة ضبط العلاقات بين بنغلاديش وباكستان معتدلةً بعض الشيء؛ نظرًا لتقاطع سياساتهما الاقتصادية الخارجية في مجالي صادرات المنسوجات والملابس الجاهزة، ما يجعل منهما منافسين طبيعيين في السوق الإقليمي.
إضافة إلى ذلك، من المتوقَّع أن تجري بنغلاديش انتخابات في فبراير المقبل، وقد تركز الحكومة القادمة على إصلاح وتعزيز العلاقات مع نيودلهي. وتشير التوقعات إلى فوز الحزب الوطني البنغلاديشي، الذي دعا قادته، مرارًا، إلى تحسين الروابط السياسية والاقتصادية مع الهند.
ولعلّ أخطر ما تخشاه نيودلهي هو أن يتحول هذا التقارب إلى شراكة إستراتيجية شاملة تشمل الاقتصاد والأمن والطاقة، بما يفتح الباب أمام إعادة تشكيل التحالفات التقليدية في المنطقة.
من جانبها الولايات المتحدة، التي تراقب التنافس بين الصين والهند عن كثب، تجد نفسها أمام معادلة جديدة؛ فبنغلاديش، بثقلها السكاني وموقعها الجيوسياسي، قد تتحول إلى ساحة تنافس إضافية بين واشنطن وبكين، وفي حال تقاربت دكا أكثر مع باكستان، فإن ذلك قد يسهّل على الصين بناء جسر نفوذ ممتد من كراتشي إلى خليج البنغال.
إذن، ليست القضية مجرد "دفء في العلاقات" بين دكا وإسلام آباد؛ إذ أن ما يحدث اليوم هو اختبار لموازين القوى في جنوب آسيا برمتها، وإذا كان التاريخ الثقيل لا يزال يضغط على ذاكرة الشعوب، فإن المصالح الإستراتيجية تدفع القادة نحو خيارات جديدة، قد تنتهي بإعادة رسم خريطة التحالفات في المنطقة.