يشهد البرلمان الفرنسي، نقاشًا حادًّا يعكس أزمة أعمق في السياسة الخارجية لفرنسا، وذلك في أعقاب التصعيد في الشرق الأوسط بين إسرائيل وإيران، حيث يعتبر مراقبون سياسيون أن هذا الجدل يكشف عن تآكل الإجماع التقليدي في السياسة الخارجية الفرنسية، وتراجع الدور الوسيط لباريس على الساحة الدولية.
وبينما يسعى الرئيس إيمانويل ماكرون إلى الحفاظ على موقف "محايد"، تتهمه المعارضة بالغموض والانحياز، وهو ما يُظهر، بحسب محللين، محدودية الاستراتيجية الفرنسية في الموازنة بين المبادئ الوطنية والتحالفات الدولية.
وقال الباحث السياسي الفرنسي في معهد الدراسات السياسية بمدينة ليون، جان مارك لويزي إن النقاش الدائر في البرلمان يعكس "تآكل الإجماع التقليدي في السياسة الخارجية الفرنسية"، مشيرًا إلى أن ماكرون بات محاصرًا بين يسار يتهمه بالخضوع للمحور الأمريكي–الإسرائيلي، ويمين يراه غير حازم كفاية.
واعتبر لويزي في تصريح لـ"إرم نيوز"، أن "فرنسا تفقد تدريجيًا دورها كوسيط دولي مستقل، وهو ما كان يشكّل ركيزة لهيبتها الدبلوماسية".
وفي السياق نفسه، قالت الباحثة السياسية الفرنسية سيلين ديبوا، من مركز الدراسات الجيوسياسية في باريس، إن موقف رئيس الوزراء فرانسوا بايرو شكّل "محاولة واضحة لإبقاء فرنسا ضمن خانة اللاانحياز الإيجابي"، مضيفة أن ذلك "لم يعد يُقنع الداخل السياسي المنقسم".
ورأت ديبوا في تصريح لـ"إرم نيوز"، أن هناك "أزمة سردية في فرنسا حول مدى فاعلية صوت باريس في تحقيق التوازن العالمي"، معتبرة أن النقاش الدائر حول إيران وإسرائيل "فضح حدود تلك المعادلة".
واستجابة لرغبة الرئيس ماكرون وضغط القوى اليسارية، عقد البرلمان الفرنسي مساء الأربعاء نقاشًا حول الوضع في الشرقين الأدنى والأوسط، ركّز بشكل خاص على التصعيد العسكري بين إسرائيل وإيران، وقد وُجهت انتقادات شديدة للرئيس عبر حكومته من قبل المعارضة، متّهمة إياه باتباع سياسة خارجية "غامضة" إزاء هذا التصعيد الخطير.
ومثل ماكرون، لم يعلّق رئيس الوزراء فرانسوا بايرو على العمليات العسكرية الإسرائيلية–الأمريكية داخل إيران، ولم يُدنها أيضًا، مكتفيًا بالقول: "من المشروع أن نُقر بأن البرنامج النووي الإيراني يشكل تهديدًا وجوديًا لإسرائيل، ونحن الأوروبيون مهددون كذلك".
وأضاف بايرو: "لضمان عدم حصول إيران على السلاح النووي على المدى الطويل، لا بد من اتفاق قوي، قابل للتحقق، ودائم"، بحسب ما نقلته إذاعة "RFI" الفرنسية.
ودافع بايرو عن "الدور الفريد لفرنسا"، مذكّرًا بأنها كانت في طليعة المفاوضات التي أفضت إلى اتفاق فيينا النووي عام 2015، مشيرًا أيضًا إلى أهمية "بناء القوة الأوروبية".
ورغم تمسّك رئيس الوزراء بمبدأ التوازن الذي تنتهجه باريس، اعتبرت كتلة "فرنسا الأبية"، التي تمثل اليسار الراديكالي، أن المواقف الرسمية تنطوي على انحياز واضح.
وقالت النائبة ماتيلد بانو: "لقد أذهلنا عجزكم عن إدانة العدوان الإسرائيلي على إيران، والذي يتعارض مع القانون الدولي، فرنسا في عهد ماكرون أصبحت خادمة لنتنياهو وترامب".
وأضافت: "لقد قطعتم صلتكم بتشبّث فرنسا بالتعددية وبالقانون الدولي، بانضمامكم إلى عقيدة الحرب الوقائية".
أما أقصى اليمين، فتبنى موقفًا مناقضًا تمامًا، فقد اعتبرت مارين لوبان، زعيمة حزب "التجمع الوطني"، أن على فرنسا دعم حلفائها الأمريكيين والإسرائيليين بوضوح ضد النظام الإيراني، وقالت: "ماكرون يتردد ولا يمتلك رؤية واضحة، وهذا ما أدى إلى تآكل دور فرنسا على الساحة الدولية، رأينا ذلك في إفريقيا، واليوم يتكرر في الشرقين الأدنى والأوسط".
وتكشف هذه الانقسامات حول السياسة الخارجية - سواء في ما يتعلق بإيران أم أوكرانيا أم غزة - عن الشرخ العميق الذي يشقّ البرلمان الفرنسي في المرحلة الحالية.
ورغم حدّة النقاشات، سُجّل البرلمان إجماعًا نادرًا بين مختلف الكتل السياسية، حيث وجّهت الجمعية الوطنية دعوة موحدة للإفراج الفوري عن الرهينتين الفرنسيتين المحتجزتين في إيران، سيسيل كوهلر وجاك باريس.