ترامب يعلن أنه سيوجّه "خطابا إلى الأمة" الأربعاء
فتَح تأسيس تحالف "أوكوس" بين أستراليا والولايات المتحدة والمملكة المتحدة عام 2021، فصلا جديدا في الشراكة الأمنية بين الحلفاء الثلاثة، غير أنه يحمل في باطنه انقساماتٍ عميقة وتحدياتٍ معقدة على المدى البعيد.
وكشفت "فورين أفيرز"، أن هذا التحالف، بعد 4 سنوات فقط، تحوّل من رمز للتكامل الاستراتيجي إلى مصدر قلق مشترك؛ إذ تهدد التوترات السياسية والشكوك المتبادلة بتفكيك أحد أعمدة التحالف الغربي في آسيا، وفي قلب الأزمة تكمن غواصاتٌ لم تُبنَ بعد، وخطوط إنتاج لم تُجهز، وتحالفات سياسية تتآكل تحت وطأة "أمريكا أولاً" بنسختها الترامبية الجديدة.
ويرى الخبراء أن أستراليا تعيش مأزقا استراتيجيا مركبا؛ فبينما تُعد الصين شريكتها التجارية الأهم، تراها المؤسسة الأمنية أكبر تهديد لأمنها القومي، وهذا التناقض الذي يطبع سياساتها منذ الحرب العالمية الثانية هو ما يجعلها متمسكة بالتحالف الأمريكي، حتى مع تصاعد التوترات بسبب سياسات ترامب الاقتصادية والدفاعية، واليوم، بات "أوكوس" هو الغراء الذي يُبقي العلاقة متماسكة، وإن كانت بشكل هشّ.
وبينما يمضي الشق التقني من الاتفاق – التعاون في الذكاء الاصطناعي، والحوسبة الكمية، والدفاع السيبراني، والتقنيات تحت البحر – نسبيا كما خُطِّط له، فإن الجزء الجوهري المتمثِّل في حصول أستراليا على غواصات نووية أمريكية بحلول 2032، ثم تصميم وإنتاج فئة جديدة بالتعاون الثلاثي، أصبح موضع شك؛ فواشنطن، بدافعٍ من مراجعةٍ أمر بها البنتاغون في يونيو الماضي، تُراجع حاليا مدى انسجام الاتفاق مع توجهات ترامب القومية، وستُعلَن نتائج المراجعة بالتزامن مع زيارة رئيس الوزراء الأسترالي أنطوني ألبانيزي الوشيكة إلى البيت الأبيض في أكتوبر.
ويعتقد مراقبون أن رمزية "أوكوس" تجاوزت مجرد كونها صفقة تسليح؛ فقد أصبح مرآة تعكس طبيعة العلاقة بين كانبيرا وواشنطن، وبالنسبة للأستراليين، فإن الاتفاق ما هو إلَّا ضمانة لردع الصين، وبالنسبة للأمريكيين، يعد اختبارا لمدى ولاء أستراليا الاستراتيجي؛ فواشنطن تريد تعهدا واضحا بأن الغواصات ستشارك في أي مواجهة محتملة مع بكين، فيما تطلب كانبيرا التزاما لا لبس فيه بأن واشنطن لن تتراجع عن وعودها، وبين هذين المطلبين المتناقضين تتصدع الثقة.
ومنذ وصول ألبانيزي إلى السلطة عام 2022، حاول إعادة الدفء إلى العلاقات مع الصين بعد أعوام من التوتر، دون أن يتخلى عن "أوكوس"؛ خشية أن يُفسَّر أي تردد كضعف في إدارة ملف التحالف مع الولايات المتحدة، لكنه غالبا ما يتحدث عن فوائد الاتفاق الاقتصادية وفرص العمل التي سيخلقها، أكثر مما يتحدث عن فوائده الأمنية، بينما وزيرة خارجيته بيني وونغ نادرا ما تذكره علنا، ويُعتقد أنها لا تتحمس له خلف الكواليس.
في واشنطن، تنظر إدارة ترامب إلى علاقات أستراليا التجارية الوثيقة مع الصين بعين الريبة، وترى أن حكومة العمال الأسترالية قد لا تملك الاستعداد السياسي أو الشعبي للمشاركة في أي مواجهة عسكرية مع بكين، ولذلك، بدأت الإدارة تضغط لرفع الإنفاق الدفاعي الأسترالي إلى 3.5% من الناتج المحلي الإجمالي، وتطالب بتعهد صريح من كانبيرا بالمشاركة في الدفاع عن تايوان.
لكن المشكلة لا تتوقف عند الضغوط السياسية؛ فالإنتاج الأمريكي من الغواصات النووية متعثر نظرا لحاجة واشنطن إلى مضاعفة وتيرة التصنيع لتلبية احتياجات أسطولها قبل أن تتمكن من بيع أيٍّ منها لأستراليا، ومع تزايد الشكوك في قدرة واشنطن على الوفاء بوعودها، يزداد القلق في كانبيرا من أن تُترك دون أي قدرة بحرية حقيقية.
تبلغ التكلفة الإجمالية للاتفاق نحو 240 مليار دولار أمريكي؛ ما يجعله أضخم مشروع دفاعي في تاريخ أستراليا، ومع ذلك، لا يبدو أن البلاد تملك التمويل الكافي لتغطية التزاماتها؛ إذ يعتزم ألبانيزي رفع الإنفاق الدفاعي بالكاد إلى 2.3% بحلول 2032، كما أن أي زيادة محدودة لا توازي حجم المشروع، ونتيجة لذلك، باتت القوات التقليدية الأسترالية تعاني نقصا في التمويل لصالح برنامج الغواصات الذي يلتهم الميزانية الدفاعية.
وتُظهر استطلاعات الرأي أيضا تراجع الحماسة الشعبية نحو "أوكوس"؛ إذ يرى نصف الأستراليين فقط أنه سيجعل البلاد أكثر أمنا، فيما يعتقد 60% أن الولايات المتحدة لن تفي بوعدها بتسليم الغواصات، وفي ظلِّ هذا التململ، بدأت أصوات من داخل النخبة السياسية، بينهم رئيسا الوزراء السابقان بول كيتنغ ومالكوم تيرنبول، تطرح تساؤلات حول جدوى المشروع، بل وتحذر من أن أستراليا قد تجد نفسها في منتصف القرن بلا غواصات ولا صناعة دفاعية حقيقية.
ويتوقع محللون أن واشنطن إذا قررت تأجيل أو إلغاء بيع الغواصات، فستتجاوز تداعيات القرار حدود أستراليا لتضرب مصداقية الولايات المتحدة بين حلفائها في آسيا، من سيول إلى مانيلا، أمَّا إذا مضت الصفقة قدما بشروط أمريكية مشددة، فسيُنظر إليها في أستراليا على أنها تنازل عن السيادة؛ إذ ستكون الغواصات عمليا تحت القيادة الأمريكية في أي صراع مع الصين.
وفي كلتا الحالتين، يعكس هذا الوضع أزمة ثقة أعمق بين الطرفين؛ فواشنطن تتعامل مع أستراليا باعتبارها قاعدة أمامية في مواجهة الصين، بينما تسعى كانبيرا إلى حماية شراكتها الاقتصادية مع بكين وتجنُّب حرب كارثية قد تدمّر اقتصادها، وبين الطموح الأمريكي والقلق الأسترالي يقف "أوكوس" كاتفاق هشٍّ يحمل في طياته بذور انهياره.
ويرجح البعض أن هذا التحالف قد يبقى قائما بالاسم فقط، لكن جوهره يتآكل؛ فبين "أستراليا التي تخشى الصين" و"أمريكا التي لا تثق في أحد"، أصبح "أوكوس" رمزا لتحالفٍ مأزوم أكثر منه تحالفا صلبا.