أثار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب جدلاً واسعًا بعدما هدّد بإرسال قوات أمريكية "مدججة بالسلاح" إلى نيجيريا ما لم تبذل حكومتها المزيد من الجهود لحماية المسيحيين من المتشددين الإسلاميين، وفق قوله.
وجاء هذا التصعيد غير المسبوق في سياق حملة ضغط متنامية من القاعدة الإنجيلية الموالية لترامب، التي ترى في الصراعات الدينية في إفريقيا امتدادًا لمعاركها العقائدية الداخلية داخل الولايات المتحدة.
وبحسب صحيفة "التايمز"، بدأت القصة بنداء أطلقه الناشط المحافظ تشارلي كيرك قبل وفاته، زاعمًا أن "125 ألف مسيحي قُتلوا و19 ألف كنيسة دُمّرت في نيجيريا خلال 15 عامًا"، وهي أرقام لا يمكن التحقق منها لكنها لاقت صدى واسعًا داخل حركة "ماغا" (لنجعل أمريكا عظيمة مجددًا).
بعد أيام من مقتله، تبنّى ترامب خطابًا مشابهًا، متوعدًا حكومة أبوجا بقطع المساعدات واتخاذ "إجراء عسكري سريع ووحشي" إذا لم تتحرك فورًا.
وعلى منصة "تروث سوشيال"، كتب ترامب أن "الإسلاميين المتطرفين مسؤولون عن مذبحة جماعية ضد مسيحيينا الأعزاء"، مضيفًا أن "المسيحية تواجه تهديدًا وجوديًّا في نيجيريا".
وردّ وزير الحرب الأمريكي بيت هيغسيث بإيجاز: "نعم سيدي"، ما زاد من غموض نوايا الإدارة تجاه التدخل في إحدى أكثر مناطق العالم اضطرابًا.
يأتي هذا التوجه في ظل تصاعد التأثير السياسي للإنجيليين داخل حملة ترامب الانتخابية، إذ يحرص الرئيس الأمريكي على مخاطبة مخاوفهم الدينية وإعادة تأكيد دوره كـ"حامي المسيحيين" حول العالم.
وتعد نيجيريا، الدولة الأكثر سكانًا في أفريقيا، بؤرةً خصبة لهذا الخطاب، إذ تنقسم ديموغرافيًّا بين مسيحيين في الجنوب ومسلمين في الشمال، وتعيش حالة من التوتر الديني الممتد منذ عقود.
رفض نيجيريا للاتهامات
ردّت الحكومة النيجيرية بلهجة دبلوماسية حذرة على تهديدات ترامب، مؤكدةً أن أي دعم عسكري أمريكي سيكون موضع ترحيب "طالما أنه يعترف بسيادتنا الوطنية".
وقال الرئيس بولا أحمد تينوبو إن "وصف نيجيريا بالتعصب الديني لا يعكس واقعنا"، مشيرًا إلى أن بلاده "تتبنّى التسامح الديني كمبدأ وطني ثابت".
وتأتي تصريحات تينوبو بعد توتر سابق مع إدارة ترامب، التي أعادت إدراج نيجيريا ضمن قائمة "الدول المثيرة للقلق الديني" إلى جانب الصين وأفغانستان.
كما أظهرت الصحف النيجيرية انقسامًا حادًّا حيال الموقف الأمريكي، فبينما رأت بعض الأصوات أن التهديد محاولة "لإجبار أبوجا على التحرك ضد التطرف"، وصف آخرون الخطوة بأنها "استعراض انتخابي موجه للداخل الأمريكي أكثر من كونه التزامًا أخلاقيًّا حقيقيًّا".
وتواجه نيجيريا أزمة أمنية مركّبة تشمل تمرد جماعة بوكو حرام وتنظيم "داعش – ولاية غرب إفريقيا"، إلى جانب صراعات محلية بين المزارعين والرعاة في وسط البلاد.
وتشير بيانات "برنامج مواقع الأحداث والصراعات المسلحة" الأمريكي إلى تسجيل أكثر من 20 ألف حالة وفاة في هجمات ضد المدنيين منذ عام 2020، منها 385 هجومًا استهدف مسيحيين و196 هجومًا استهدف مسلمين.
ويرى المحلل الإفريقي لاد سيروات للصحيفة أن "الحديث عن حرب دينية في نيجيريا تبسيط خطير"، موضحًا أن العنف هناك "نتاج تداخل العوامل العرقية والاقتصادية والبيئية"، أكثر من كونه صراعًا عقائديًّا بحتًا.
كما حذر الباحث أولاجوموكي أيانديلي من أن "التركيز المفرط على الدين في الخطاب الأمريكي قد يغذي الانقسام المحلي ويقوّض الجهود الأمنية الإقليمية".
تأثير الإنجيليين على سياسة ترامب
منذ حملته الأولى عام 2016، اعتمد ترامب على تحالف قوي مع القادة الإنجيليين الذين يشكلون قاعدة انتخابية مركزية له.
ومن بين أبرز الأصوات التي رافقت تهديده الأخير تجاه نيجيريا، الواعظة باولا وايت كين، المستشارة الروحية للرئيس، التي شكرت ترامب على "موقفه الحازم من اضطهاد المسيحيين"، واعتبرت الأمر "جزءًا من مهمة إيمانية عالمية".
كما عبّر نائب الرئيس جيه دي فانس، المتحول إلى الكاثوليكية، عن "صدمته من الاضطهاد الشديد للمسيحيين في نيجيريا"، فيما وصف القس فرانكلين غراهام، أحد أبرز قادة التيار الإنجيلي، ما يحدث بأنه "إبادة جماعية يتجاهلها الإعلام".
وحتى الإعلام المحافظ دخل على الخط، إذ قال المعلق بيل ماهر إن "ما يتعرَّض له المسيحيون في نيجيريا أسوأ مما يحدث في غزة" وفق زعمه.
لكن هذا التفاعل المكثف لا يعكس بالضرورة استعدادًا حقيقيًّا للتدخل العسكري. فوفقًا لمصادر دبلوماسية في أبوجا نقلتها وكالة "أسوشيتد برس"، لم تتعامل الحكومة النيجيرية مع تهديد ترامب كتحذير جاد، بل "كوسيلة ضغط رمزية لتحريك الملف في سياق انتخابي داخلي".
ورغم أن تاريخ السياسة الأمريكية في إفريقيا لم يخلُ من تدخلات عسكرية، فإن الدوافع الدينية لم تكن يومًا المحرك الرئيس لها.
ومع ذلك، فإن التركيز على "حماية المسيحيين" يتقاطع مع توجهات ترامب في تعبئة قاعدته الانتخابية، خصوصًا في الولايات الجنوبية المحافظة.
من جانب آخر، تتهم بعض الأصوات داخل المؤسسة الأمريكية ترامب بتسييس الدين لتبرير مواقف عدائية تجاه دول إفريقية كبرى. ويشير مستشاره السابق مسعد بولس إلى أن "بوكو حرام وتنظيم الدولة الإسلامية يقتلان المسلمين أكثر من المسيحيين"؛ ما يجعل الخطاب الأمريكي الحالي "انتقائيًّا وغير واقعي".
وتبدو تهديدات ترامب لنيجيريا انعكاسًا واضحًا لتقاطع الدين بالسياسة في الولايات المتحدة، أكثر من كونها تعبيرًا عن إستراتيجية أمريكية متماسكة في إفريقيا.
فبينما يواجه الرئيس الأمريكي حملة انتخابية محتدمة، يسعى لاستثمار القضايا الدينية لتعزيز صورته كمدافع عن الإيمان، في وقت تتراجع فيه الثقة الدولية بواشنطن بسبب تقلب مواقفها.
أما في نيجيريا، فإن الخطاب الأمريكي يهدد بتأجيج الانقسامات القائمة، وقد يحوّل الأزمة الأمنية إلى صراع هوياتي يعرقل جهود الحكومة في محاربة الإرهاب.
وبينما يطالب الإنجيليون بتدخل عسكري "لحماية المسيحيين"، يصرّ خبراء الأمن على أن الحل يكمن في التنمية والحوكمة لا في السلاح.