تحولت الولايات المتحدة في عهد دونالد ترامب إلى "المعرقل المقيم" الذي يرفض الخروج من الأمم المتحدة، ويحد من التمويل؛ ما يبقي المنظمة حيّة ولكن عاجزة أمام التحديات العالمية، بعد أن كانت عمودًا ماليًا وسياسيًا لها.
وكشفت "فورين بوليسي"، أن ترامب عندما عاد إلى البيت الأبيض في يناير وبدأ بسحب الولايات المتحدة من اتفاقيات دولية مثل "اتفاق باريس للمناخ"، توقَّع بعض كبار مسؤولي الأمم المتحدة أن يترك ترامب المنظمة كلياً، لكن ومع ذلك، وبعد 8 أشهر، يستعد ترامب لإلقاء كلمته في الجمعية العامة لأول مرة منذ 2020، وسط توقُّعاتٍ بأن يستمر في تقليص الدعم الدبلوماسي والمالي للأمم المتحدة دون إعلان انسحابٍ رسمي من ميثاقها.
ويرى الخبراء أن واشنطن لطالما كانت في قلب النجاحات الكبرى للأمم المتحدة، بدءًا من تشكيل التحالف لطرد العراق من الكويت في 1991 إلى التفاوض على "اتفاق باريس للمناخ 2015"، غير أن أصعب فترات المنظمة دائمًا ما ارتبطت بالاحتكاك مع الإدارة الأمريكية، كما حصل مع إدارة جورج دبليو بوش حول حرب العراق 2003، لكن عادةً ما تنتهي هذه التوترات بالمصالحة، وهو أمر يبدو بعيد المنال هذه المرة.
وبحسب مراقبين فإن واشنطن تتصرف اليوم غالبًا كعضو شبه منفصل داخل المنظمة؛ فقد قاطع مسؤولون أمريكيون عدة اجتماعات للأمم المتحدة حول مواضيع مثل التغيُّر المناخي وتمويل التنمية؛ ما دفع الدبلوماسيين إلى الحديث عن "المجتمع الدولي ناقص واحد" في مواجهة القضايا العالمية، وفي بعض الحالات، قد يجعل غياب واشنطن المفاوضات أسهل، كما حدث في اتفاق استعدادات الجائحة في مايو، رغم انسحاب الولايات المتحدة من العملية، ومع ذلك، فإن حضور واشنطن في الاجتماعات قد يشير إلى تصعيد، كما حصل في قمة الأمم المتحدة حول إدارة تلوث البلاستيك، حيث شرع فريق واشنطن في نقد مسودة الاتفاق بسرعة.
لكن غياب التمويل الأمريكي أثار قلق المسؤولين الدوليين، فبعد أن أوقفت واشنطن دعم معظم النشاطات الإنسانية، حذر المسؤول عن المساعدات في الأمم المتحدة، توم فليتشر، من أن وكالات المنظمة لم تتمكن سوى من جمع 19% من المبلغ المطلوب البالغ 29 مليار دولار لمساعدة أكثر من 100 مليون شخص هذا العام، كما أخفقت الولايات المتحدة في دفع مساهماتها الإجبارية في ميزانية الأمم المتحدة العادية وميزانية حفظ السلام.
يخشى المسؤولون أن تكون استراتيجية واشنطن الآن البقاء داخل المنظمة ولكن الدفع بأقل قدر ممكن من التزاماتها المالية، لكن وفق قواعد الأمم المتحدة، قد تفقد الولايات المتحدة حق التصويت في الجمعية العامة إذا تأخرت كثيرًا في الدفع، لكنها تحتفظ بحقِّها في مجلس الأمن؛ ما يتيح لها تعطيل القرارات التي ترفضها، مثل الإدانات الموجهة لإسرائيل.
كما حذر بعض المسؤولين من أن احتفاظ الولايات المتحدة بامتيازاتها دون دفع مستحقاتها قد يدفع قوى كبرى أخرى إلى تقليدها؛ إذ سبق للصين أن أبطأت دفع حصتها من نفقات المنظمة رغم توقع أن تغطي 20% من التكاليف الأساسية مقابل 22% للولايات المتحدة.
ويحذر منتقدون من أن الولايات المتحدة إذا استمرت كمعرقل داخل الأمم المتحدة، فمن غير الواضح من يستطيع أن يحل محلها كقائد فعلي للمنظمة؛ فقد حاولت بعض الدول الأوروبية في 2017-2018 ملء الفراغ، لكن اليوم أوضحت هذه الدول أنها تفتقر للموارد لسد فجوة التمويل الأمريكية، أما الصين فتصرفت بحذر، رغم طموحها للسيطرة على مناصب دولية عليا بما يتماشى مع التزاماتها المالية المتزايدة، لكنها لم تتعهد بتقديم دعم مالي كبير لتعويض النقص الأمريكي.
ويعتقد البعض أن القوى المتوسطة والدول الصغيرة قد تحاول سد الفجوة قياسًا بالموضوع، مثل البرازيل التي ستترأس اجتماع الأمم المتحدة السنوي حول المناخ في نوفمبر، وطرحت فكرة إنشاء مجلس جديد لتنسيق جهود مكافحة الاحتباس الحراري، إلى جانب احتمالية عقد مؤتمر خاص لمراجعة ميثاق الأمم المتحدة، كذلك شكّل كلٌّ من المكسيك والنرويج مجموعة دولية لمناقشة إصلاحات عملية للأمم المتحدة واختيار الأمين العام القادم.
من جهته أشار أحد المسؤولين السابقين في الأمم المتحدة إلى احتمال تحول النظام من "أحادية القطب"، حيث تتحكم الولايات المتحدة في كل شيء، إلى "تعددية متعددة الأقطاب"، يتفاوض فيها عدد أكبر من الدول على شروط التعاون المستقبلي، وقد تدخل واشنطن مرة أخرى إذا رأت أن الدول الأخرى تتجه نحو طموحات أكبر؛ إذ أبلغت الإدارة الأمريكية بعض القوى الكبرى أنها ترفض أي تعديل لمجلس الأمن.
ومن الممكن أيضًا أن تتسع الهوة أكثر، حتى يصل الأمر إلى تهديد واشنطن بالانسحاب فعليًا، وهو سيناريو قد تستغلُّه كلٌّ من إسرائيل أو مؤيدو الفلسطينيين لتوجيه ضغوط دولية لانسحاب أمريكا أو استبعاد دول أخرى.
وترجِّح مصادر أن انسحاب الولايات المتحدة الكامل يبقى حتى الآن مجرد كابوس بعيد؛ فالإدارة الأمريكية قد لا تحب الأمم المتحدة، لكنها تجدها مفيدة أحيانًا بطريقة انتقائية، كما يتضح من اقتراح واشنطن في مجلس الأمن لتفويض قوة أمنية دولية موسعة لمواجهة العصابات في هايتي.
في نهاية المطاف، ستظل الولايات المتحدة منخرطة جزئيًا في أعمال الأمم المتحدة، بينما سيضطر باقي العالم لتولي زمام القيادة في مجالات تتجاهلها واشنطن؛ ما يجعل التعامل مع الإدارة الأمريكية في المنظمة صعبًا، لكن العيش دونها سيكون أصعب بكثير.