الكرملين: مشاركة الأوروبيين في مفاوضات أوكرانيا "لا تبشّر بالخير"
تبدو إيران اليوم كمن يسير في نفقٍ بلا مخرج، بعدما فقدت قدرتها على الموازنة بين السرّية النووية والمشروعية السياسية؛ فالمسار الذي بدأ بوصفه "مشروعاً سيادياً" تحوّل إلى عبءٍ ثقيل على الدولة والمجتمع، حيث أصبح البرنامج النووي عنواناً لعزلة خانقة تقود النظام الإيراني نحو مواجهة غير محسوبة مع الداخل والخارج معاً.
واليوم، تُواجه إيران مرحلة لم تعرفها من قبل في تاريخ برنامجها النووي، فحتى وقت قريب، بدا أن طهران تُدير ملفها النووي خلف ستار السرّية، مستثمِرةً إياه كأداة بقاء سياسي تحت سقف العقوبات والمفاوضات، لكن تلك الاستراتيجية لم تعد تُمثّل في حد ذاتها قيمة، بل تحولت إلى عبء ضاغط، جعل من طهران لاعباً منفرداً في مواجهة متصاعدة.
وقال مسؤول رفيع في وزارة الخارجية الأمريكية، يعمل ضمن فريق منع الانتشار النووي، ويتابع تطورات البرنامج الإيراني عن كثب، إن طهران "دخلت عملياً مرحلة عزلة نووية شاملة، ولم يعد هناك إطار تفاوضي موثوق يمكن البناء عليه في ظل غياب الشفافية الكاملة".
وأضاف المصدر الدبلوماسي، خلال حديثه لـ"إرم نيوز"، أن الإدارة الأمريكية باتت تنظر إلى الملف النووي الإيراني باعتباره ملفاً أمنياً معزولاً، وليس ورقة تفاوض استراتيجية كما كان يُعامل سابقاً.
وقال المصدر إن إيران دخلت مرحلة عزلة نووية كاملة، ليس فقط بسبب غياب التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، بل بسبب انعدام أي نية سياسية حقيقية للعودة إلى مسار شفاف يمكن البناء عليه.

وأوضح أن واشنطن باتت تعتبر سلوك النظام الإيراني خلال الأسابيع الأخيرة انعكاساً لانفلات داخلي في منظومة الحكم، وليس تصعيداً مدروساً كما في السابق.
وبيّن المصدر أن واشنطن تتابع بقلق بالغ "التحوّل الواضح في سلوك طهران، حيث لم تعد تتعامل مع الملف النووي باعتباره ورقة تفاوض، وإنما كأداة لإثارة الردع الإقليمي دون حساب للتبعات".
وشدد على أن "المشكلة لم تعد في نسبة التخصيب وحدها، إذ باتت المشكلة الأكبر في غياب الرقابة الدولية وانعدام القنوات المفتوحة مع المجتمع الدولي. وهذا ما دفع عدداً من العواصم إلى إعادة تقييم رؤيتها للتهديد الإيراني باعتباره تهديداً غير قابل للاحتواء".
وأكد المصدر أن "إيران فقدت الأدوات التي كانت تستخدمها تقليدياً لتخفيف الضغط الدولي، وعلى رأسها قدرتها على المناورة السياسية"، مشيراً إلى أن "هناك إجماعاً يتبلور في عدد من الدوائر الغربية بأن النظام الإيراني لم يعد يُبدي أي رغبة جادة في العودة إلى الاتفاقات السابقة، بل يعمل على خلق حالة صدام محسوب".
وفيما يتعلّق بالمخاطر الإقليمية، قال المصدر إن العزلة المتفاقمة تجعل من البرنامج النووي الإيراني "عبئاً على الأمن الإقليمي والدولي"، مضيفاً أن "هناك نقاشات جدية تجري الآن في واشنطن وحلفائها حول ما إذا كانت المرحلة قد تجاوزت حدود الاحتواء التقليدي. لقد أصبح الحديث أكثر واقعية بشأن خطوات استباقية إذا لم تتغير الحسابات في طهران".
وأشار المصدر الدبلوماسي إلى أن واشنطن رصدت في الأيام القليلة الماضية محاولات إيرانية لإعادة تشغيل قنوات تواصل خلفية مع عواصم أوروبية عبر وسطاء تقنيين، لكن دون التزام واضح أو جادّ بآلية رقابة أو تفتيش.
وقال: "ما نسمعه في كواليس هذه التحركات لا يتجاوز الحديث عن تخفيف العقوبات مقابل وقف طوعي لبعض النشاطات، من دون قبول بأي التزامات شفافة أو دائمة".
وحذّر من أن دوائر القرار في واشنطن بدأت فعلياً بتوسيع تعريف "التهديد الإيراني" ليشمل التهديد الداخلي الذي يشكّله النظام على شعبه، وليس فقط تهديداته الإقليمية.
وتابع المصدر: "هناك نقاش داخل مجلس الأمن القومي الأمريكي حول ضرورة توسيع المقاربة؛ لأن النظام الإيراني لم يعد فقط يهدد أمن إسرائيل أو الخليج، بل بات يشكل تهديداً لبنية الدولة الإيرانية ذاتها، وهو ما يثير قلقاً متزايداً بشأن استقرار المنطقة بعد انهيار محتمل".
وحول مدى التنسيق مع إسرائيل، أوضح المصدر أن هناك تفاهماً استراتيجياً متقدماً، دون الحاجة لاتفاق معلن، وأن واشنطن "تُدرك أن إسرائيل لن تنتظر طويلاً إذا ما واصلت طهران التخصيب بوتيرة مرتفعة".
وقال: "لا يوجد ضوء أخضر أمريكي، لكن هناك فهمٌ ضمني بأن الوقت ينفد، وكل الأطراف المعنية تدرك أن الخيارات تضيق".
وختم المصدر بالقول: "الإدارة الأمريكية لا تبحث عن صدام خلال الفترة الحالية، لكنها تدرك تماماً أن غياب الشفافية الكاملة، وعدم وجود رقابة دولية موثوقة، يعني ببساطة أن إيران تقف خارج النظام العالمي، وأن استمرار هذا الوضع يجعل من أي تفاهم مستقبلي شبه مستحيل ما لم يتغيّر سلوك النظام بشكل جوهري".
بدورها، قالت الخبيرة الأمريكية في قضايا الحدّ من الانتشار النووي، هانا روثفِلد، إن ما يحدث في إيران اليوم يعكس فشلاً مزدوجاً للنظام، تقنياً واستراتيجياً، في إدارة برنامجه النووي ضمن أي قواعد مقبولة للشرعية الدولية.
وأشارت روثفِلد، في حديث لـ"إرم نيوز"، إلى أن السرّية التي يصرّ عليها النظام الإيراني لم تعد توفّر أي هامش مناورة أو حماية سياسية، بل باتت تعني شيئاً واحداً لدى المجتمع الدولي، وهو إخفاء ما لا يمكن تبريره.
وأضافت: "إيران لا تدير برنامجاً نووياً ضمن معايير الدول الكبرى، فهي تتصرّف كما لو كانت في سباق مع الشفافية نفسها. لا تُقدّم بيانات، لا تفتح مواقعها للتفتيش، وترفض الالتزام حتى بإعلانات تقنية عامة. في عالمٍ تحكمه الأقمار الصناعية والذكاء الاصطناعي، هذا النوع من السرّية لا يعكس قوة، بل خوفاً كامناً من انكشاف الفشل أو النوايا العسكرية".
ورأت روثفِلد أن طهران أضاعت الفرصة التاريخية التي منحتها لها مفاوضات فيينا وما قبلها؛ لأنها تعاملت مع البرنامج النووي بوصفه أداة للابتزاز وليس للتفاوض.
وقالت: "لم تكن إيران يوماً قريبة من التفاهم كما كانت قبل بضع سنوات، لكن بدلاً من البناء على المسار التقني التفاوضي، اختارت التصعيد والتضليل والتلاعب بالمصطلحات العلمية".
كما حذّرت من أن الفصل المتعمد بين المسار السياسي والمسار الرقابي التقني في إدارة الملف، يعني أن النظام الإيراني يُجهّز لمواجهة، لا لاتفاق، مشيرة إلى أن غياب النوايا الصادقة في إعادة خطوط الاتصال مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية يفتح الباب أمام تقديرات استخباراتية غير متوقعة قد تُسرّع من فرض واقع عسكري أو أمني على الأرض.
وختمت روثفِلد بقولها: "ما يجهله النظام الإيراني أن البرنامج النووي، حين يُدار خارج قواعد الشفافية والتعاون، يتحول من مشروع سيادة إلى نقطة ضعف استراتيجية. وليس هناك أسوأ من نظام يُراكم اليورانيوم ويخسر الثقة في الوقت نفسه".
أما الخبير البريطاني جوليان ميرك، المتخصص في استراتيجيات العزل الدولي، فقد رأى أن إيران تعيش اليوم مرحلة عزلة نووية حقيقية، ليس لأن العالم يُريد عزلها، لكن لأن النظام الإيراني لم يترك خياراً آخر.
وأضاف ميرك، خلال حديثه لـ"إرم نيوز"، أن النظام لم يكتفِ بتعليق التفاوض، وإنما قام بتفكيك كل الجسور السياسية التي كانت تُبقي له مساحة تحرّك، محولاً الملف النووي إلى عبء على الدولة والمجتمع.
وقال: "كل المؤشرات تُظهر أن طهران لم تعد تمتلك أي استراتيجية دبلوماسية قابلة للتصديق. لا مؤشرات تهدئة، لا مبادرات حسن نية، ولا حتى خطابات موجهة إلى الداخل الإيراني لشرح ماهية البرنامج وجدواه الاقتصادية أو التنموية".
واعتبر ميرك أن العزلة الراهنة التي تعيشها إيران تُشبه ما يُعرف في الأدبيات السياسية بـ"الطوق غير المعلن"، حيث يتم خنق النظام عبر وقف التعاون، وتهميشه من أي ترتيبات أمنية إقليمية، وتعليق قنوات التواصل.
ويضيف: "النظام الإيراني الآن بلا شبكة أمان. فلا يوجد اتفاق نووي، ولا قناة تفاوض، ولا تعاطف إقليمي حقيقي، حتى الداعمين التقليديين باتوا يتعاملون معه بتحفّظ. هذه ليست عزلة طوعية، بل نتيجة هندسية لمسار سياسي قائم على المكابرة".
وأشار ميرك إلى أن ما يُثير القلق اليوم ليس احتمال حصول إيران على قنبلة نووية فقط، ولكن الطريقة التي تُدار بها الدولة وهي تمضي نحو هذا الاحتمال.
وبحسب ميرك، فإن "الأنظمة التي تعتمد على السرّية كوسيلة لحماية قراراتها، عادة ما تكون أقل استعداداً لتحمّل نتائج الانفجار، لأن بنيتها لا تتحمل ردّ الفعل الدولي".
وختم بقوله: "إذا استمرّت إيران في هذا المسار، فهي لا تتجه إلى مواجهة مع إسرائيل أو الغرب فقط، بل نحو انسداد كامل يجعلها غير قابلة للإدماج لا في السوق ولا في الأمن الإقليمي. وحينها، ستكون القنبلة – إن حصلت – مجرّد تفصيل صغير في قصة نظام اختار العزلة الكاملة ثم لم يعد يعرف كيف يخرج منها".
واستثمر النظام الإيراني منذ بداياته في فكرة "الاستقلال العلمي" بوصفها جزءاً من سردية الثورة، مقدّماً البرنامج النووي كرمزٍ للسيادة في مواجهة الغرب.
لكنّ هذه السردية كانت دوماً تقوم على معادلة ملتبسة متمثلة باستخدام السرّية لتكريس الغموض وردع الخصوم، من دون السماح برقابةٍ حقيقيةٍ قد تُظهر حجم التقدّم الفعلي أو الثغرات القائمة.
وتحوّلت السرّية تدريجياً إلى أداة بقاء سياسي أكثر منها مشروعاً وطنياً، فالنظام جعل من "الخطر الخارجي" ذريعةً لتبرير القمع الداخلي، وربط مصير الدولة بمصير البرنامج.
بهذه الطريقة، تحوّل المشروع من ورقة تفاوض إلى وسيلة لإدامة السيطرة، في وقتٍ كانت فيه شرعية النظام تتآكل بفعل الفساد، والتدهور المعيشي، والانقسام المجتمعي.
ولم تعد طهران قادرة على إقناع أحدٍ بأنها تمتلك برنامجاً سلمياً، بعد سنواتٍ من الغموض والتناقض في التصريحات، فغياب الشفافية لم يعد يقتصر على المجتمع الدولي، لكنه أصبح سمةً للعلاقة بين النظام وشعبه.
ولم يعد المواطن الإيراني يعرف حجم ما يُنفق من موارده على هذا المشروع، ولا مدى واقعيته أو فائدته في تحسين حياة الناس.
في المقابل، أدّى الانغلاق إلى انعدام الثقة بين طهران والعواصم الإقليمية، إذ لم يعد أحدٌ مستعداً للتعامل مع نظامٍ يلوّح بالتخصيب كأداة ابتزاز سياسي.
ومع تراجع قنوات الحوار وتوقف المفاوضات، أصبحت إيران تدور حول نفسها، كانت تتحدث عن إنجازاتٍ علمية بينما تغرق في أزماتها الداخلية، من العملة المنهارة إلى هجرة العقول.
وفي ظلّ غياب أي إنجازٍ اقتصادي أو اجتماعي حقيقي، وجد النظام في الخطاب النووي وسيلةً لتعبئة الداخل وصرف الأنظار عن أزماته، فكلّما تصاعد الغضب الشعبي بسبب الفقر أو البطالة أو الفساد، عاد الإعلام الرسمي ليتحدث عن "انتصاراتٍ نووية" و"ردعٍ استراتيجي" و"أعداءٍ يتربصون بالثورة".
غير أنّ هذا الاستخدام السياسي للسلاح النووي لم يعد فعّالاً، فالمجتمع الإيراني بات أكثر وعياً بأن النظام يوظّف هذه الورقة للبقاء.
وما يواجهه النظام الإيراني اليوم هو تآكل مفهوم "القوة الردعية" التي بنى عليها وجوده، فالعقوبات التي كانت تُستخدم سابقاً لتغذية خطاب المظلومية باتت اليوم تقتل الاقتصاد من الداخل.
وفقد النظام توازنه بين البقاء والمشروعية؛ فهو لا يستطيع التراجع من دون أن يُظهر ضعفاً، ولا يستطيع التقدّم من دون أن يُشعل مواجهة، وهذا ما يجعله في حالة "شللٍ استراتيجي" أشبه بالحصار الذاتي، حيث تتحوّل كل خطوةٍ إلى خطرٍ جديد.