يواجه حلف شمال الأطلسي (الناتو) أزمة داخلية حادّة مع عودة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى السلطة؛ ما يهدّد مصيره ويجعل علاقته مع الولايات المتحدة أكثر تذبذباً وريبة.
وبحسب تقرير لصحيفة "التايمز" البريطانية، فإن الناتو يواجه أزمة وجود بفعل ردود ترامب "المتهوّرة"، مثل إلغاء تمويل تدريب عسكري لدول البلطيق، وسحب دعم استخباراتي مؤقت من أوكرانيا، إضافة إلى خطاب نائب الرئيس جيه دي فانس اللاذع ضد الليبراليين الأوروبيين.
وتثير هذه التطوّرات مخاوف من سحب عشرات الآلاف من القوات الأمريكية من أوروبا أو حتى صفقة استراتيجية مع روسيا؛ ما يجعل مصير الناتو معلّقاً بين البقاء والتفكّك، في أسوأ أزمة منذ كارثة السويس العام 1956.
وفي الوضع الحالي، يبدو الأفق القريب قاتماً، خاصة لدول الحافة الروسية مثل بولندا ورومانيا وإستونيا، التي شهدت انتهاكات جوية روسية متكرّرة، إذ أثار إلغاء التمويل الأمريكي قلقاً كبيراً في دول البلطيق، رغم إعادة الكونغرس له سريعاً، معتبراً نذيراً للأسوأ.
حتى بولندا، الحليف الأقوى لأمريكا في أوروبا، تعبّر عن قلقها من "تصدّعات" في المجتمع عبر الأطلسي، كما قال رئيس وزرائها دونالد توسك. ومع ذلك، تهدأ العاصفة تدريجياً، مع ظهور محور أطلسي جديد أكثر تفكّكاً لكنه واضح.
خلف الكواليس، تبذل واشنطن جهوداً للطمأنة، مشيرة عبر قنوات سرّية إلى أن تخفيضات مراجعة كولبي لن تكون جذرية، رغم انخفاض عدد القوات الأمريكية من 100 ألف إلى 80 ألفاً بعد زيادتها العام 2022.
ويتوقّع دبلوماسيو الناتو تغييرات محدودة، مثل تقليص مهمة الجناح الشرقي أو إزالة بعض العناصر المساعدة كطائرات التزويد بالوقود، لكن على المدى المتوسّط، يتركّز المصير على تحوّل جوهري في علاقة أمريكا مع الناتو، حيث يعتمد الحلف على واشنطن في 40% من قوّته العسكرية الميدانية حالياً.
ووفق مصدر رفيع في الناتو، فإن على الأوروبيين زيادة إنفاقهم إلى 3% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2030، إذ كانت قمّة لاهاي في يونيو نقطة تحوّل، حيث حدّد الحلفاء هدفاً جديداً بـ3.5% للدفاع و1.5% للأمن الأوسع، ملبّين مطالب ترامب.
وساهم زعماء مثل رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر، وأمين عام الناتو مارك روته، في بناء علاقات ودّية مع ترامب وإقناعه بجدّية أوروبا، إلا أن الضغط الأمريكي مستمر، إذ يلاحظ السفير ماثيو ويتاكر أن بعض الحلفاء يماطلون في تحقيق نسبة الـ5%، مثل إسبانيا التي تنفق 1.3% فقط ولا تنوي الزيادة.
الشبكة الخلفية
ويتوقّع تحوّل أمريكا إلى دور "الشبكة الخلفية"، مقتصراً على المظلّة النووية والاستخبارات من أقمار التجسّس؛ ما يجبر أوروبا على تحمّل المسؤولية الأساسية عن أمنها، كما قال وزير الحرب بيت هيغسيث.
ويبرز الضعف المؤسسي تحدّيات مصير الناتو، مع اعتماد شبه كلي على الاستخبارات الأمريكية، وهو ما يفسّر استثمار ألمانيا 35 مليار يورو في أقمار الاتصالات والمراقبة بحلول نهاية العقد.
كما ينقص الأوروبيين جنرالات ذوي خبرة لإدارة تشكيلات كبيرة، وتكشف فجوات في القدرات مثل مخزونات الذخائر المستنفدة، والدفاعات الجوية، وطائرات النقل والتزويد، فيما مقترحات مثل "جدار طائرات بدون طيار" على الجناح الشرقي تذكر بدروس أوكرانيا في مواجهة الطائرات المسيرة الرخيصة؛ ما يجعل دمج تقنيات جديدة أولوية لاختبار جهود أوروبا في واشنطن.
سيناريوهات كابوسية
في سياق العلاقة مع أمريكا، يستعد بعض الأوروبيين لسيناريوهات كابوسية، مثل رفض واشنطن الدفاع عن حليف رغم بقائها في الناتو؛ ما يشل صنع القرار. هذه المداولات سرية وأولية، مستوحاة من مفهوم "قوة المهام المشتركة" في التسعينيات في البوسنة.
يتطلب التطور وقتاً، عقداً على الأقل، وإرادة سياسية، مع تنازلات مثل هدف الـ5% واتفاقية تجارية غير متوازنة. ومع ذلك، تستمر "حملة الابتزاز" الأمريكية، مطالبة برسوم جمركية 100% على الصين والهند مقابل ضمانات لأوكرانيا، وتخفيف لوائح على شركات التواصل.
وتشير اتفاقية مار إيه لاغو إلى تبعية مالية مقابل حماية، بينما يرى فانس أن التهديد الأكبر يكمن في تراجع أوروبا عن "المبادئ الغربية"، مطالباً بحلفاء "حضاريين" يتبنّون قيماً تقليدية.
ويرى تقرير "التايمز" أن مصير الناتو يعتمد على قدرة أوروبا على الفطام عن التبعية الأمريكية، وسط ضغوط إمبريالية جديدة من واشنطن، معتبراً أوروبا قادرة على الاستقلال إذا فكّرت في دورها العالمي بدلاً من دفع "مال الغداء" لترامب. في عصر الإمبراطوريات الجديد، يثبت عام 2025 أن كل مبدأ له ثمن؛ ما يجعل علاقة الناتو مع أمريكا توازناً هشّاً بين التعاون والصراع.