رأى خبراء فرنسيون في العلاقات الدولية أن أوروبا تجد نفسها اليوم في قلب "حرب ثقافية" يقودها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وحلفاؤه المحافظون، وهي معركة لا تقل خطورة عن الخلافات الاقتصادية أو الأمنية.
وحذر تقرير صادر عن المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، ورفعه إلى مؤسسات الاتحاد لتعميمه على الدول الأعضاء، من أن التيار الذي يقوده الرئيس الأمريكي قرر "إعلان حرب ثقافية على أوروبا"، كما حدد التقرير موعداً زمنياً لانطلاق هذه الحرب في 14 فبراير الماضي، ومكاناً لها في مؤتمر الأمن الذي تستضيفه مدينة ميونيخ الألمانية كل عام.
وقالت صحيفة "لوموند" الفرنسية التي نشرت مقتطفات عن التقرير إنه "في ذلك اليوم، أشهر نائب الرئيس الأمريكي جي دي فانس كامل ترسانته اليمينية المحافظة وشن هجوماً عقائدياً مدويّاً ضد أوروبا، مشككاً في مجموعة القيم والمبادئ الديمقراطية التي يقوم عليها المشروع الأوروبي".
وأكد باحثون فرنسيون أن مستقبل الاتحاد الأوروبي، وهويته السياسية والثقافية، باتا على المحك. وبينما ترى بعض العواصم أن المسألة مرتبطة بالرسوم الجمركية أو بتقاسم الأعباء الدفاعية داخل حلف الناتو، يحذر خبراء السياسة من أن جوهر الأزمة أعمق بكثير: إنها صراع على القيم والهوية ومكانة أوروبا في النظام الدولي.
من جانبه، قال براسبنينج-بالزاك أستاذ في العلوم السياسية في معهد العلوم السياسية في باريس لـ"إرم نيوز" إن أوروبا اليوم تواجه تحديًا مزدوجًا: من جهة التدخلات الأمريكية التي تهدّد قيمها ونظامها المؤسساتي، ومن جهة الانقسامات الداخلية التي تجعل من الصعب صياغة ردّ موحّد وثابت.
وشدد على أن التبعية ليست فقط مادية (اعتماد اقتصادي، أمن مشترك) بل معنوِية: كيف تُروّج القصص، كيف يُنظر إلى أوروبا داخلية وخارجية ككيان مستقل أو تابع.
من جانبها، قالت لوري نيومير، المحاضرة الجامعية في جامعة باريس-1 والباحثة في المركز الأوروبي لعلم الاجتماع والعلوم السياسية لـ"إرم نيوز" إن الحرب الثقافية الأمريكية تؤثر بشكل خاص على الدول التي تشعر بعدم استقرار هويتها مقارنة بالدول الأوروبية الغربية التقليدية.
وأشارت إلى أن الشعوب في شرق أوروبا تحديدًا ربما ترى في الديمقراطية الأوروبية والانضمام للاتحاد الأوروبي ليس فقط خيارا اقتصاديا أو أمنيا، بل كهوية منقِذة من التبعية التاريخية، سواء للنفوذ السوفييتي السابق أو لروسيا اليوم.
وأضافت أنه إذا صيغ الخطاب الأمريكي بطريقة تقلّل من قيمة هذه الهويات، أو ترى أوروبا كلها تحت هيمنة فكرة مركزية غربية أو أمريكية، فإن ذلك قد ينعكس برد فعل شعبي وحكومي يدفع نحو تبنّي مواقف أكثر تحفظًا أو حتى تجاهلات للقيم الغربية إذا كانوا يشعرون أن هذه القيم تُنتهك.
فيما نقلت صحيفة "لوموند" الفرنسية عن أندريه ويلكنز، مدير مؤسسة الثقافة الأوروبية (ECF) قوله إن ما يجري يتجاوز الخلافات التجارية أو الدفاعية بين بروكسل وواشنطن، فبالنسبة له، المسألة تتعلق بمحاولة أمريكية لإعادة صياغة المشهد الأيديولوجي الأوروبي.
وأشار إلى أن خطاب نائب الرئيس الأمريكي في مؤتمر ميونيخ للأمن شكّل "إعلان حرب ثقافية" ضد أوروبا، هدفه التشكيك في مفهوم "الغرب" وقيم الديمقراطية الليبرالية.
وأضاف أن ما يثير القلق هو محاولات الإدارة الأمريكية تصوير أوروبا على أنها "ضعيفة، تابعة وساذجة"، وهو ما ينعكس في الملفات الاقتصادية مثل النزاعات الجمركية، أو السياسية مثل مفاوضات أوكرانيا. هذه الممارسات، بحسبه، تُراكم شعورًا بالإهانة لدى الأوروبيين، والإهانة ليست مسألة سياسية فقط، بل "جرح في الهوية".
من جانبه، قال بافيل زيركا، الباحث في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية (ECFR) إن ترامب وحلفاءه لا يكتفون بالضغط المباشر عبر العقوبات أو التهديدات الجمركية، بل يستغلون الانقسامات داخل الاتحاد الأوروبي من خلال دعم قوى يمينية مثل فيكتور أوربان في المجر وجورجيا ميلوني في إيطاليا، معتبراً أن هذه القوى تعمل كـ"حصان طروادة" لتفكيك الموقف الأوروبي الموحد من الداخل، بحسب صحيفة "لوموند" الفرنسية.
واعتبر زيركا أن أوروبا ما زالت تملك أوراق قوة مهمة، أبرزها ارتفاع نسب التأييد الشعبي للاتحاد الأوروبي بعد أزمة جائحة كورونا والحرب الروسية على أوكرانيا. هذه التحولات خلقت "بوصلة جديدة" للهوية الأوروبية تقوم على قيم الديمقراطية والأمن والمصير المشترك.