ذكرت مجلة "فورن أفيرز" الأمريكية أن كوريا الشمالية ربما لا تزال تحتفظ بفرصة ثانية لعقد اتفاق مع واشنطن، بعد فشل قمة هانوي في العام 2019 بين الزعيم كيم جونغ أون والرئيس الأمريكي دونالد ترامب، مشيرة إلى أن بيونغ يانغ قد تكون الآن أكثر استعدادًا للعودة إلى طاولة المفاوضات.
وأكدت المجلة أن الرئيس ترامب، رغم انشغاله بقضايا أكثر إلحاحًا في السياسة الخارجية، لم يُغفل الملف الكوري الشمالي، بل تشير تصريحات سابقة ومؤشرات عدة إلى أن إحياء المحادثات مع بيونغ يانغ لا يزال ضمن أولويات أجندته في حال عودته إلى البيت الأبيض.
ففي مقابلة مع قناة "فوكس نيوز" عقب تنصيبه، قال ترامب إنه مستعد "للتواصل" مع كيم، الذي وصفه بأنه "رجل ذكي"، وفي نهاية مارس/ آذار، صرح للصحفيين بأنه "على اتصال" مع كوريا الشمالية، وينوي "القيام بشيء ما" بشأنها "في مرحلة ما".
كما يضم فريق ترامب في السياسة الخارجية عددًا من الخبراء المختصين بالشأن الكوري، من بينهم أليسون هوكر وكيفن كيم؛ ما يعزز احتمالات إحياء المسار الدبلوماسي.
وترى المجلة أن استئناف المحادثات قد يخدم كلا الطرفين؛ فمن جهة، يمنح ترامب فرصة نادرة لتحقيق اختراق في السياسة الخارجية، لا سيما بعد تعثر الجهود الأمريكية في أوكرانيا والشرق الأوسط. ومن جهة أخرى، يمنح النظام الكوري الشمالي مكاسب محتملة، خاصة مع إدراكه أن التحولات الجيوسياسية قد لا تصب دائمًا في صالحه.
وتُشير "فورن أفيرز" إلى أن ترامب لم يُكمل "العمل غير المنجز" مع كوريا الشمالية؛ إذ اجتمع مع كيم خلال ولايته الأولى، لكنه لم ينجح في إبرام اتفاق نهائي، ومع عودته إلى السلطة، فإن الفرصة قائمة أمامه لمحاولة جديدة.
وفي المقابل، رغم أن النظام في بيونغ يانغ أصبح أكثر قوةً عمّا كان عليه قبل سنوات، إلا أنه يدرك أن الظروف الراهنة، ولا سيما تحالفاته الحالية مع روسيا والصين، قد تتغير في أي لحظة.
صفقة محتملة... لكنها "صغيرة"
ووفق المجلة، هناك نموذج قائم لما يُعرف بـ"الصفقة الصغيرة" بين واشنطن وبيونغ يانغ، وهو اتفاق كان مطروحًا في العام 2019، يقضي بأن تفكك كوريا الشمالية منشآتها النووية المعروفة مقابل رفع أو تخفيف للعقوبات الأممية، دون المطالبة بإزالة الترسانة النووية بالكامل.
وبذلك، تتخلى الصفقة عن مطلب "نزع السلاح النووي الكامل والقابل للتحقق ولا رجعة فيه"، والذي يُعتبر جوهر ما يُعرف بـ"الصفقة الكبيرة".
ورغم أن الولايات المتحدة كانت تمتلك حينها نفوذًا حقيقيًا، حيث واجهت كوريا الشمالية عقوبات صارمة فُرضت بإجماع مجلس الأمن، وطبقتها الصين وروسيا بصرامة، إلا أن الجانبين فشلا في الاتفاق خلال قمة هانوي، بسبب الخلاف على حجم التنازلات المطلوبة من كوريا الشمالية، وقائمة المنشآت النووية التي يجب تفكيكها.
ومنذ ذلك الوقت، لم تتراجع كوريا الشمالية، بل أصبحت أقوى؛ فقد استفادت من تحولات جيوسياسية كبرى، إذ بدأت كل من موسكو وبكين في تعزيز علاقاتهما مع بيونغ يانغ. وتشير تقديرات إلى أن كوريا الشمالية جنت نحو 5.5 مليار دولار من مبيعات الأسلحة إلى روسيا خلال العام 2024.
كما تطورت الترسانة النووية لنظام كيم بشكل ملحوظ؛ إذ يُقدّر معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام أن كوريا الشمالية باتت تمتلك حوالي 50 رأسًا نوويًا، ووفقًا لوكالة استخبارات الدفاع الأمريكية، فإن بيونغ يانغ في "أقوى وضع استراتيجي" لها منذ عقود.
دوافع اقتصادية واستراتيجية
وبحسب التقرير، فإن إحياء الخطوط العامة لاتفاق جزئي قد يكون ممكنًا لسببين رئيسيين؛ أولهما أن العلاقة التجارية الحالية بين كوريا الشمالية وروسيا مرشحة للتراجع بعد انتهاء الحرب في أوكرانيا؛ ما قد يُفقد بيونغ يانغ أحد أهم مصادر دخلها.
أما السبب الثاني، فهو رغبة كوريا الشمالية في تقليل اعتمادها على الصين، التي لا تزال تُعد الحليف الأكبر لها، لكنها أيضًا مصدر قلق استراتيجي محتمل.
وتُضيف المجلة أن هذه الديناميكية قد تمنح كوريا الشمالية مساحة للمناورة الجيوسياسية والاقتصادية، وتوفر حافزًا جديدًا للنظام الكوري لعقد صفقة مع واشنطن؛ فالاتفاق مع ترامب قد يُخفف من الأعباء الاقتصادية الطويلة الأمد، ويُمكّن بيونغ يانغ من العودة إلى استراتيجيتها المُفضلة في استغلال التنافس بين القوى العظمى.
ومع ذلك، تتوقع المجلة أن كوريا الشمالية - إن عادت إلى المفاوضات - ستتخذ موقفًا تفاوضيًا أكثر صرامة مما كانت عليه في 2019؛ ما قد يدفع إدارة ترامب المحتملة إلى القبول بصفقة أقل من تلك التي كانت مطروحة في هانوي.
تحسبًا لنفاد الحظ
وختمت "فورن أفيرز" تقريرها بالإشارة إلى أن كوريا الشمالية نجت من دفع ثمن الانسحاب من قمة هانوي في المرة السابقة، بفضل التصعيد بين الصين والولايات المتحدة، والحرب الروسية في أوكرانيا. لكن هذه "الفرصة الجيوسياسية" قد لا تتكرر.
لذلك، ربما يكون من مصلحة بيونغ يانغ التفاوض على اتفاق يمنحها مزيدًا من الاستقلال الاقتصادي ويُخفف من اعتمادها على جيرانها، الذين قد يشكلون تهديدًا لمستقبلها.