سجلت الانتخابات البرلمانية العراقية الأخيرة واحدة من أدنى مستويات الحضور المدني منذ 2003، بعد أن خرج هذا التيار بنتيجة شبه معدومة، مكتفيا بمقعد واحد ضمن تحالف "الفاو – زاخو".
وجاء هذا التراجع بعد دورة سابقة كان فيها المستقلون والقوى المدنية يحجزون ما يقارب 40 مقعداً داخل مجلس النواب، بينهم وجوه لعبت أدواراً بارزة ضمن "احتجاجات تشرين".
وتوضح الأرقام، أن البرلمان الجديد بات خاضعاً إلى هيمنة واضحة للقوى التقليدية، خصوصاً التحالفات المرتبطة بالميليشيات المسلحة أو الأحزاب الكبرى التي تمكنت من تعزيز مواقعها عبر شبكات النفوذ والتنظيم والتمويل الانتخابي، في مقابل غياب كامل للتيارات المدنية التي خاضت الانتخابات بعنوانها الصريح.
وهذا التحول يُقرأ داخل الأوساط السياسية على أنه إعادة رسم لمنظومة التوازنات داخل المؤسسة التشريعية، إذ لم يعد هناك وجود فعال للقوى التي كانت تمثل منظومة احتجاجات 2011 و2015 و2019، أو التي رفعت شعارات بناء دولة مؤسسات بعيدة عن المحاصصة والهيمنة.
بدورها، ترى البرلمانية السابقة شروق العبايجي، أن "غياب التمثيل المدني جاء بسبب مسار طويل من تهميش الأصوات الوطنية لصالح قوى تملك المال والنفوذ".
وقالت العبايجي لـ"إرم نيوز"، إن "التجربة السياسية بعد 2003 كان يفترض أن تقود إلى ترسيخ دولة المواطنة، لكن ما حدث هو العكس، إذ أُغلقت نوافذ الإصلاح واحدة تلو الأخرى، وباتت السلطة السياسية أقرب إلى مفهوم الغنيمة".
وأشارت إلى أن "التراجع لم ينشأ في هذه الانتخابات فقط، بل امتد عبر سنوات من هيمنة شبكات النفوذ الحزبي، وتراكم الممارسات التي قادت إلى انتكاس التجربة الديمقراطية"، مؤكدةً أن "الأحزاب المتنفذة انشغلت بتقاسم المكاسب والامتيازات، بينما انصرف المدنيون للدفاع عن مصالح الشعب ومواجهة الأزمات الخدماتية والاقتصادية".
وتُظهر النتائج الرسمية أن مقاعد البرلمان توزعت بين الأحزاب الدينية والقوى التقليدية بشكل شبه كامل، إذ حصل ائتلاف "الإعمار والتنمية" على 46 مقعداً، وتلاه "دولة القانون" بـ30 مقعداً، ثم "تقدم" بـ36 مقعداً و"الصادقون" التابع لميليشيا عصائب أهل الحق، بواقع 28 مقعداً، فيما نال الحزب الديمقراطي الكردستاني 29 مقعداً.
في المقابل، اختفت تماماً التحالفات المدنية التي دفعت بنحو 389 مرشحاً، وهو ما تعتبره مراكز بحثية "انحساراً غير مسبوق" لدور القوى الديمقراطية داخل البرلمان.
وتشير قراءات، إلى أن غياب القوى المدنية سيجعل المعارضة البرلمانية موزعة بين كتل صغيرة، معظمها جزء من المعادلة التقليدية، ما يحد من قدرة البرلمان على إنتاج رقابة فعالة أو مسار تشريعي متوازن، خصوصاً مع دخول جزء كبير من المستقلين السابقين في تحالفات مع الأحزاب الحاكمة.
في المقابل، يرى الباحث في الشأن السياسي حسين الطائي إن "إخفاق القوى المدنية في الانتخابات لم يكن وليد اللحظة، بل نتاج تراكمات طويلة من الأخطاء في الخطاب والتنظيم والاقتراب من الشارع".
وأوضح الطائي، لـ"إرم نيوز" أن "معظم الأحزاب المدنية قدمت خطاباً نخبوياً لا يلامس بيئة الناخب، ولم تستطع تحويل التعاطف الشعبي معها إلى بنية انتخابية قادرة على المنافسة، في وقت نجحت فيه الأحزاب التقليدية في بناء شبكات نفوذ تمتد من القواعد الاجتماعية حتى المؤسسات المحلية".
وأضاف أن "القوى المدنية فشلت في قراءة التحولات داخل المجتمع بعد احتجاجات تشرين، ولم تتمكن من بناء تنظيمات ميدانية ثابتة، الأمر الذي جعل حضورها موسمياً يرتفع في الأزمات ويتلاشى خلال الاستحقاقات الانتخابية".
وبحسب المؤشرات فإن صعود القوى المرتبطة بالفصائل المسلحة جاء مستفيداً من فراغ تركه انسحاب التيار الصدري وضعف الحضور المدني، ما جعل القواعد الانتخابية تتجه نحو الكتل الأكثر تنظيماً وقدرة على الحشد.
كما يشير مراقبون إلى أن تراجع الحركة المدنية يعود أيضاً إلى عدم قدرتها على تحويل الاحتجاجات السابقة إلى بنى حزبية صلبة، أو بناء هياكل تنافسية قادرة على مواجهة "الآلة الانتخابية" للأحزاب التقليدية.