حافظت برلين، منذ بدء حرب غزة، على موقف ثابت يتمثل في دعم إسرائيل بالدفاع عن نفسها، واعتبار أن أمن الدولة العبرية مبدأ رئيس في الاستراتيجية الألمانية، غير أن التصريحات الناقدة الأخيرة للمستشار فريدريش ميرتس كسرت هذه القاعدة.
ورأى ميرتس، في تصريحات نادرة، أنه لم يعد من الممكن اعتبار محاربة "إرهاب حماس"، مبررًا لحجم الأذى الذي يلحق بالسكان المدنيين، وفق تعبيره.
وأضاف في مقابلة مع شبكة (دبليو.دي.آر) قائلًا: "عند تجاوز الحدود، إذ يُنتهك القانون الدولي الإنساني بالفعل، فعلى ألمانيا أيضًا، وعلى المستشار الألماني أيضًا أن يقول شيئًا حيال ذلك".
وشدد على أنه "يتعين على الحكومة الإسرائيلية عدم القيام بأي فعل لم يعد أصدقاؤها المقربون مستعدين لقبوله"، منددًا بممارسات إسرائيل في القطاع، خصوصًا بعد الإعلان عن العمليات العسكرية التي حملت اسم "عربات جدعون".
ومن المعروف أن ألمانيا دعمت بقوة، ومنذ بدء حرب غزة قبل نحو 600 يوم، حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، وتعد برلين، إلى جانب واشنطن، من أكثر المؤيدين للدولة العبرية، في تباين واضح عن الصف الأوروبي، خصوصًا فرنسا وإسبانيا اللتان تنددان بسياسة نتنياهو وتواصلان الضغوط من أجل وقف الحرب.
ووفقًا لخبراء، فإن ألمانيا تعاني مما يمكن تسميته بـ"عقدة الذنب"، فهي ترى أنه من واجبها الوقوف إلى جانب إسرائيل تعويضًا عن دورها في المحرقة "الهولوكوست" التي أزهقت أرواح ستة ملايين يهودي خلال الحقبة النازية.
من هنا، وبالرغم من أن انتقادات ميرتس بدت متحفظة وحذرة ومتأخرة، وكذلك الانتقادات المماثلة التي صدرت من سياسيين ألمان، في الآونة الأخيرة، غير أن هذه "المواقف الناقدة"، وإن بدت "خجولة"، تمثل تحولًا ملحوظًا في موقف برلين التقليدي.
علاوة على ذلك، فإن استطلاعات الرأي أظهرت تحولًا في الرأي العام الألماني، حيث يرى 70% من الألمان أن أفعال الجيش الإسرائيلي في غزة لا يمكن تبريرها، مقارنة بـ 50% قبل بضعة أسابيع فقط.
وينبغي عدم الإغفال عن أن ميرتس تولى منصب المستشارية منذ نحو 3 أسابيع فقط، وهو ما يعني أن مواقفه، خلال السنوات الأربع المقبلة، وهي مدة ولايته، ستكون مختلفة عن مواقف سلفه أولاف شولتز.
وفي ضوء هذا التحول الألماني اللافت، تبرز أسئلة عن أسباب وعوامل مثل هذا التحول في هذا التوقيت، ولماذا صمتت برلين كل هذه المدة رغم أن الأوضاع الإنسانية في غزة متردية منذ بدء الحرب.
يرى خبراء أن ثمة عوامل وأسباب عدة لتغيير اللهجة الألمانية، من بينها أن عدة دول أوروبية من بينها إسبانيا، وأيرلندا، وبلجيكا اتخذت مؤخرًا مواقف أكثر حدة ووضوحًا، بل واعترفت بدولة فلسطين.
ويلاحظ الخبراء أن برلين بدأت تشعر بأنها تعيش عزلة دبلوماسية، خصوصًا أن ألمانيا غالبًا ما تتخذ مواقف متوازنة تراعي الجانب الإنساني والقانون الدولي، مشيرين إلى أنها لم تعد قادرة على الصمت حيال ما يجري في غزة، خصوصًا بعد عملية "عربات جدعون" التي انتقدها شركاءها الأوروبيون على نطاق واسع.
ومن العوامل التي أسهمت في تغيير موقف برلين كذلك، هي اتجاهات الرأي العام الألماني، إذ أظهرت استطلاعات للرأي حديثة أن غالبية الألمان بدؤوا يرون أن ممارسات الجيش الإسرائيلي "لا يمكن تبريرها".
ولا يمكن لمستشار منتخب أن يتجاهل مثل هذه المؤشرات، وفقًا لمراقبين ومختصين بالشأن الألماني، خصوصًا أن الأحزاب المعارضة شرعت في استغلال هذه المؤشرات، وهو ما يثير حفيظة الاتحاد الديمقراطي المسيحي الذي يقود الائتلاف الحاكم، فضلًا عن بيانات المنظمات الحقوقية التي بدأت تنتقد صمت الحكومة الألمانية، وتخلفها عن اللحاق بالركب الأوروبي في هذا الصدد.
ويقود مثل هذا العامل إلى نقطة ذات صلة تتعلق بطموح ألمانيا في لعب دور "القوة الناعمة"، في السياسة الدولية، وهو الدور الذي التزمت به برلين منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وهذا الدور يتطلب خطابًا مرنًا ومتوازنًا يحترم القانون الدولي وحقوق الإنسان.
ولا يمكن تجاهل أن سجل ألمانيا في مجال حقوق الإنسان "مشرّف"، بحسب مراقبين، غير أن استمرار دعم إسرائيل المطلق يلطخ هذه الصورة، ويشوه سمعة دولة لطالما تفرغت لعقود للصناعة والتنمية، وتغاضت عن ألاعيب ومتاهات السياسة.
ويمكن وضع الموقف الألماني الناقد لإسرائيل في سياق حرص الحكومة على السلم الأهلي والمجتمعي، ذلك أن ثمة جاليات فلسطينية وعربية وإسلامية كثيرة تعيش في ألمانيا، وهي تنظم احتجاجات ضد الممارسات الإسرائيلية في غزة.
ويرى خبراء أن تجاهل الحكومة لهذه الأصوات المتعاطفة مع الفلسطينيين والمضي في دعم سياسات إسرائيل دون انتقادات قد تثير نقمة هؤلاء المتعاطفين الذين قد يلجؤون إلى "العنف" للضغط على الحكومة للعدول عن مواقفها.
ويضاف إلى كل ذلك أعداد الضحايا المدنيين المتزايد في القطاع، خلال العمليات العسكرية الأخيرة، وسط تقارير عن استهداف مرافق مدنية كالمستشفيات، والمدارس، ومخيمات اللاجئين، فضلًا عن حصار مطبق حال دون وصول المساعدات الإنسانية إلى غزة لأكثر من شهرين، وهو ما فاقم الوضع الإنساني المتردي إلى مستويات غير مسبوقة.
وينوي نتنياهو من خلال "عربات جدعون" تحقيق حسم عسكري وسياسي من خلال القضاء على حماس، وتفكيك بنيتها العسكرية، واحتلال القطاع بالكامل، مع فرض وقائع جديدة على الأرض، وهو ما أثار انتقادات دولية واسعة، وأجج خلافًا مع الحليف التاريخي والتقليدي، أي الولايات المتحدة، كما أنها غيرت، على ما يبدو، مسار برلين التقليدي في دعم تل أبيب.