قال خبراء سياسيون إن تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الأخيرة بشأن استبعاد روسيا من أي جهود وساطة بين إيران وإسرائيل تعكس تحوّلات استراتيجية أعمق في توازن القوى الدولية، خصوصًا في ظل تصاعد التوترات في الشرق الأوسط.
وفي مؤتمر صحفي عقده في ختام زيارته إلى غرينلاند، أعلن الرئيس الفرنسي بشكل قاطع أن بلاده "لم تشارك في أي عملية دفاعية لصالح إسرائيل في مواجهة الرد الإيراني"، مضيفًا أن "فرنسا لم تستدعَ أصلاً لأي عملية من هذا النوع". هذه التصريحات تأتي بعد أيام فقط من تقارير إعلامية أشارت إلى مقترح من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يقضي بأن يتولى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين دور الوسيط في الأزمة الإقليمية.
ورفض ماكرون هذا الطرح رفضًا قاطعًا، معتبراً أن الرئيس الروسي "يفتقر للمصداقية كشريك دبلوماسي في ظل الحرب المستمرة في أوكرانيا وتدهور الثقة الدولية تجاهه". وأضاف أن "التهديد النووي الإيراني لا يمس إسرائيل فقط، بل أمن أوروبا أيضًا"، في إشارة إلى أهمية إبقاء التنسيق الأوروبي بعيدًا عن التأثير الروسي.
ووصف ماكرون تدخل بوتين في هذه المرحلة بـ"غير المناسب"، مشيرًا إلى أن الكرملين بات يُنظر إليه كطرف مثير للاضطرابات بدلًا من كونه صانع سلام.
هذا الموقف الفرنسي يعكس خطًا سياسيًا متماسكًا ضد محاولات روسيا توسيع نفوذها في الشرق الأوسط عبر استغلال صراعات المنطقة.
وأكد الرئيس الفرنسي أن فرنسا، رغم توتر علاقاتها الحالية مع الحكومة الإسرائيلية بسبب الحصار المفروض على غزة، لا تزال تتمسك بموقفها المبدئي الرافض لأي تصعيد إيراني من شأنه زعزعة أمن المنطقة، دون أن يمنح ذلك "شيكًا على بياض لتل أبيب" على حد قوله.
من جانبه، قال جان-لوك ديبريه، أستاذ العلاقات الدولية في معهد الدراسات السياسية بباريس، لـ"إرم نيوز"، إن "رفض ماكرون لوساطة بوتين يندرج ضمن استراتيجية فرنسية شاملة تهدف إلى إعادة بناء التوازن في العلاقات الدولية بعيدًا عن المحاور الكلاسيكية".
وأضاف ديبريه أن فرنسا لا ترى في روسيا اليوم فاعلًا نزيهًا أو محايدًا، بل تعتبرها طرفًا في زعزعة الاستقرار، سواء في أوكرانيا أو في سوريا أو في أفريقيا.
وأشار أستاذ العلاقات الدولية الفرنسي إلى أنه في ظل هذا السياق، من الطبيعي أن ترفض باريس منح موسكو شرعية جديدة عبر تكليفها بدور الوسيط".
وأضاف ديبريه: "كما أن هذا التصريح يحمل رسالة واضحة للولايات المتحدة، وتحديدًا لترامب ولتياره، بأن أوروبا لن تنساق خلف قرارات أحادية الجانب قد تفضي إلى نتائج كارثية على المستوى الإقليمي والدولي".
من جانبها، قالت كلير بونيه الباحثة الفرنسية المتخصصة في الأمن النووي وشؤون الشرق الأوسط، بمركز أبحاث "مونتين" الفرنسي، لـ"إرم نيوز"، "إن موقف ماكرون يبرز إدراكًا دقيقًا لطبيعة التحالفات المتغيرة في الشرق الأوسط. روسيا تحاول اليوم لعب دور الوسيط في أزمة بين طرفين يتعاملان بقدر هائل من الحذر والعداء، لكن موسكو ليست في موقع يؤهلها لبناء الثقة، لا مع إسرائيل ولا مع إيران، خصوصًا بعد دعمها المطلق للنظام السوري ودخولها المباشر في حرب أوكرانيا".
وتابعت: "الرسالة الفرنسية واضحة: الوساطة لا تأتي من قوة عسكرية غير محايدة، بل من أطراف تملك المصداقية والشرعية الدولية. ولهذا فإن ماكرون يدافع عن الدور الأوروبي في الشرق الأوسط، ويمنع اختراقًا روسيًا قد يربك التوازن القائم بين واشنطن، طهران وتل أبيب".
من وجهة نظر مراقبين، فإن رفض ماكرون المقترح الأمريكي يعكس أيضًا رفضًا فرنسيًا لإعادة إنتاج معادلة "تسوية عبر القوى الكبرى" التي اتبعت بعد الحرب الباردة. كما أن باريس تحاول احتواء تأثير روسيا المتزايد في ملفات الأمن العالمي من خلال استبعادها من أي معادلات تفاوضية حاسمة.
واعتبرت بونيه أن فرنسا اليوم تراهن على ما تسميه "الاستقلال الاستراتيجي الأوروبي" وتؤكد أنها لن تسمح لأي طرف خارجي، لا سيما من خارج الفضاء الأوروبي الأطلسي، بإعادة رسم خرائط التهدئة أو التصعيد في منطقة المتوسط أو الخليج.