أعاد الحراك الدبلوماسي الذي تقوده فرنسا، عبر مساعٍ لعقد قمة تجمع فرقاء الأزمة الليبية، إلى الواجهة تساؤلات واسعة حول قدرة باريس على استعادة دورها ونفوذها في الملف الليبي، في ظل استمرار حالة الجمود السياسي وتعقّد المشهد الداخلي.
وفي هذا السياق، يجري السفير الفرنسي الجديد لدى ليبيا، تييري فالات، سلسلة من اللقاءات المكثفة مع عدد من الأطراف الليبية، من بينهم رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي، في محاولة لإحداث اختراق في مسار الأزمة ودفع العملية السياسية نحو مسار أكثر فاعلية.
وعلّق الدبلوماسي الليبي الدكتور عثمان البدري على هذه التحركات، معتبرًا أن العلاقات بين ليبيا والدول الأوروبية تتباين من دولة إلى أخرى، مشيرًا إلى أن العلاقة مع إيطاليا تكتسب أهمية خاصة، نظرًا لمساعي روما إلى دعم الاستقرار في ليبيا بحكم القرب الجغرافي والمصالح الاقتصادية، ولا سيما اعتمادها على الغاز الليبي.
وأوضح البدري، في تصريح لـ"إرم نيوز"، أن العلاقة مع فرنسا تختلف نسبيًا، إذ تركز باريس تقليديًا على نفوذها في مستعمراتها السابقة مثل النيجر ومالي وتشاد، في حين تتسم علاقتها مع ليبيا بالتوازن على الصعيدين الاقتصادي والسياسي، دون وجود أطماع عسكرية مباشرة.
وأضاف أن تراجع النفوذ الفرنسي في إفريقيا دفع باريس إلى محاولة لعب دور الوسيط بين أطراف الأزمة الليبية، لافتًا إلى أن فرنسا سعت مؤخرًا إلى الجمع بين رئاسة مجلس النواب ورئاسة المجلس الأعلى للدولة، إلا أن تلك الوساطة لم تُكلل بالنجاح بسبب تباين الرؤى بين الطرفين.
من جانبه، رأى المحلل السياسي الليبي حسام الفنيش أن فرنسا تسعى، في ظل الحراك السياسي المكثف على الساحة الليبية، إلى إعادة ترميم نفوذها الذي تراجع خلال السنوات الماضية، غير أن فرصها تظل محدودة بفعل تعقيد المشهد الليبي وتعدد الفاعلين المحليين والدوليين.
وأوضح الفنيش، في تصريح لـ"إرم نيوز"، أن باريس تعتمد حاليًا على مزيج من الأدوات الدبلوماسية والسياسية والاقتصادية، مع الإبقاء على خيار أمني محدود وغير مباشر، بعيدًا عن التدخل العسكري المباشر الذي أثبت في السابق محدودية جدواه وارتفاع كلفته.
وأشار إلى أن التحركات الفرنسية الأخيرة في الشرق والغرب الليبي، من خلال لقاءات مع عقيلة صالح ومحمد تكالة، تعكس استراتيجية مزدوجة تقوم على إدارة التوازنات بين مراكز القرار الليبي، إلى جانب محاولة تحجيم النفوذ الروسي في الملف الليبي، وتعزيز الحضور الفرنسي ضمن الإطار الأوروبي والأممي.
وأضاف الفنيش أن باريس تراهن اقتصاديًا على قطاعات الطاقة والنفط والغاز، فضلًا عن مشاريع البنية التحتية وإعادة الإعمار، باعتبارها أدوات لإعادة إنتاج نفوذ طويل الأمد يضمن لها موقعًا في أي تسوية سياسية مستقبلية.
غير أنه استدرك بالقول إن قدرة فرنسا على اختراق الملف الليبي بشكل فعلي لا تزال محدودة، مشددًا على أن النجاح يتطلب الانتقال من اللقاءات ذات الطابع الرمزي إلى تبني استراتيجية أوسع، تقوم على التعامل مع تعدد مراكز القرار، وكسر حالة الانسداد السياسي القائمة.
وختم الفنيش حديثه بالتأكيد على أن ليبيا لم تعد ساحة قابلة للسيطرة الأحادية، وأن أي دور فرنسي محتمل سيظل مرهونًا بمدى استعداد باريس للعمل ضمن شراكات استراتيجية، والقبول بواقع تعدد اللاعبين، مع امتلاك القدرة على قراءة المشهد الليبي بدقة ومرونة، بعيدًا عن محاولات إعادة إنتاج نفوذ الماضي.