بعد أسابيع قليلة من اندلاع الحرب الإسرائيلية الأخيرة على قطاع غزة، إثر هجوم السابع من أكتوبر 2023 الذي شنته حماس، كانت تقديرات المحللين العسكريين تشير إلى أن الحرب لن تطول أكثر من شهرين، بالنظر إلى تاريخ إسرائيل مع "الحروب الخاطفة" من ستة أيام إلى شهر.
استدعت إسرائيل بعد أيام من 7 أكتوبر، 360 ألفًا من جنودها الاحتياط، ما اعتبر حينها نوعًا من "الحرب النفسية"، إذ كانت التقديرات أن تل أبيب لا يمكنها خوض صراع طويل من دون أن يتعرض اقتصادها ومرافقها الخدمية لأضرار كبيرة، كما أن استدعاء جنود الاحتياط سيعطّل قطاعات صناعية وخدمية وزراعية، باعتبارهم في الأصل موظفين وعمالًا.
كانت التقديرات تستند إلى حروب غزة السابقة بين 2008 إلى 2021، وكلها تراوحت مدتها بين أسبوعين وشهر ونصف الشهر، ولم تتجاوز أي حرب بين حماس والفصائل الفلسطينية في القطاع مع إسرائيل أكثر من شهرين، وقبل ذلك حرب لبنان 2006، التي استغرقت فقط 34 يومًا".
كما تكرّس الاعتقاد بأن إسرائيل صاحبة "نفس قصير" في الحروب، بالنظر إلى سجل حروبها بعد تأسيسها عام 1948، إذ لم تستغرق حرب 1967 سوى ستة أيام فقط، كما لم تزد حرب أكتوبر 1973 عن عشرين يومًا، بعدما تمكن الجيش المصري من عبور خط بارليف.
ولم يقتصر النفس القصير لإسرائيل على الحروب، بل حتى على المواجهات المتقطعة كما في الانتفاضة الفلسطينية الأولى التي اندلعت شرارتها نهاية عام 1987، لكن بعد ثلاث سنوات كانت إسرائيل وفي اضطرارها لوقف الاحتجاجات الفلسطينية، تذهب نحو عملية سلام في ما عُرف بـ "مؤتمر مدريد".
هناك حرب أخرى استمرت نحو ثلاثة أشهر، وهي حرب بيروت عام 1982، والتي انتهت باجتياح إسرائيل لعاصمة عربية لأول مرة، لكن الحرب انتهت تحت ضغط احتجاج واسع في الشارع الإسرائيلي، بلغ ذروته مع احتشاد نحو نصف مليون متظاهر في بيروت لوقف الحرب.
أما في حرب أكتوبر 2023، والمستمرة منذ 18 شهرًا، فلم تؤثر على سيرها مئات المظاهرات المنددة في شوارع تل أبيب، والتي كانت في كثير من الأحيان تقتصر على ذوي الأسرى في قطاع غزة والمتعاطفين معهم، بل كثيرًا ما كانت تلك المظاهرات تتصادم في الشارع مع قوى إسرائيلية أخرى رافضة لوقف الحرب.
وشهدت هذه الحرب مزاجًا متشددًا في الرأي العام الإسرائيلي، إذ أشار آخر استطلاع للرأي أن نحو 51% من الإسرائيليين يؤيدون استمرارها وفق الأهداف التي حددّها رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، وهي القضاء على حركة حماس واستعادة الأسرى، ومنع أي تهديد مستقبلي من القطاع.
يرى مراقبون أن استمرار الحرب إلى هذه المدة غير المسبوقة في تاريخ إسرائيل، يعود إلى وجود نتنياهو وهو صاحب أطول فترة بقاء في السلطة بين رؤساء وزراء البلاد، متفوّقًا على أول رئيس وزراء لإسرائيل ديفيد بن غوريون.
ومنذ 6 أعوام يخوض رئيس الوزراء الإسرائيلي معارك قضائية وسياسية في إسرائيل، ولا يزال يتجنب حتى الآن مصير السجن بعد محاكمة ماراثونية عطلها هجوم السابع من أكتوبر، الذي منح نتنياهو هامشًا واسعًا للمناورة.
ويتهم المعارضون الإسرائيليون نتنياهو بأنه يتعمد إطالة الحرب وتوسيع جبهاتها، سعيًا منه لتجنب المحاكمة والسجن وانتهاء مستقبله السياسي، على غرار ما حدث مع رئيس الوزراء الأسبق، إيهود أولمرت.
ويعتقد خبراء أن نتنياهو الذي كان عند فوزه أول مرة عام 1996 أصغر رئيس وزراء إسرائيلي في تاريخ البلاد، استطاع تغيير الكثير من "ثوابت" الحكم في إسرائيل، إذ كسر كل القوالب في سبيل البقاء على كرسيه، ما صعّب فرصة الإطاحة به رغم شراسة معارضيه، والاحتجاجات المليونية التي وصلت منزله غير مرة.
"إسرائيل كانت تبدو في 7 أكتوبر أنها في طريقها إلى الزوال"، هكذا برر نتنياهو قبل شهرين استمرار الحرب، مضفيًا طابعًا وجوديًا عليها.
واجهت إسرائيل لأول مرة "احتلالًا" دام 6 ساعات لمناطقها الجنوبية من قبل كتائب القسام والفصائل العسكرية الأخرى في غزة، وانتشرت مقاطع فيديو لمقاتلين فلسطينيين ينصبون الحواجز العسكرية في شوارع المستوطنات.
المشاهد شكّلت صدمة كبرى لإسرائيل وشعبها وجيشها، وجعل عبارة نتنياهو بأن البلاد كانت في طريقها إلى "زوال" محل إجماع حتى من أشرس معارضيه، ما اعتُبر مبررًا لدى الرأي العام الإسرائيلي في الذهاب إلى آخر مدى في الخيار العسكري.