وسط مفارقات الفرح والبكاء والاستعراض والتوعّد، التي لوّنت مشهد الإفراج عن السجناء والأسرى من الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي ضمن المرحلة الأولى من اتفاق وقف إطلاق النار في قطاع غزة، رصدت منظمات المجتمع المدني جديدا لافتا في مشهد الصراع الموصول ارتأت أهمية تحويله في المرحلة القادمة إلى واحد من أسلحتها في معركة عزل إسرائيل دوليا واختراق جبهتها الداخلية.
وسجلت هذه المنظمات المعنية بحقوق الإنسان، أن اتفاق تحرير الرهائن والأسرى - وهو الصفقة الثالثة من نوعها - انتهى إلى وصول قيادات وازنة في إسرائيل، إلى القناعة بأن "مفهوم الردع" في أحكام السجن المؤبد التي تُفرط الدولة العبرية في استخدامها ضد الفلسطينيين، أضحى "وهماً" بالغ التكلفة، فكلما زاد عدد المؤبدات زاد إلحاح "المقاومة" على التخطيط لرهائن جدد.
المحامي في القانون الدولي إبراهيم الدلو، عرض، في حديث لـ"إرم نيوز"، جملة من الشواهد التي قال إنها تؤسس لتغيير نوعي في ملفات الأسرى الفلسطينيين لدى إسرائيل، يستحق البناء عليه.
وأشار الدلو إلى ما جرى في اجتماع الحكومة الإسرائيلية الأخير، الذي كان مقررا أن تتم فيه المصادقة على صفقة وقف النار وتبادل الأسرى، ففي ذلك الاجتماع بكى أربعة وزراء وهم يقرؤون من الاتفاق وجوب الإفراج عن كل هذا العدد من أصحاب محكوميات المؤبد.
وكان من بين من بكى الوزير عميحاي شيكلي الذي لم يتردد بنشر مشاعر الخذلان واليأس التي سقط بها، والتي تستحق التوثيق.
وقال شيكلي: "دخلتُ إلى اجتماع الحكومة وأنا أميل بوضوح للتصويت لصالح الصفقة، لكن قراري بعدم دعمها جاء فقط بعد اطلاعي على قوائم الأسرى المتوقع الإفراج عنهم في المرحلة الأولى، من حيث عددهم ومكانتهم. كان الحديث يدور عن مئات الأسرى الذين يقفون وراء آلاف العمليات، بما في ذلك عشرات الهجمات التفجيرية وعمليات إطلاق النار القاتلة".
وخلص شيكلي إلى أن الرسالة التي وصلته من هذه الصفقة هي أن مفهوم السجن المؤبد في دولة إسرائيل أصبح مجرد وهم. فإذا لم يتم الإفراج عنك بعد 10 سنوات، فسيتم الإفراج عنك بعد 20، بشرط أن تخطف عددا كافيا من الإسرائيليين.
وفي الاعترافات التي يقول المحامي الدلو إنه يوثّقها بشأن عبثية الأحكام المؤبدة التي راكمتها إسرائيل طوال العقود الماضية، يستذكر أن وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير انتقد الصفقة، ووصفها بأنها سيئة ورهيبة ومتهورة.
وكان مبعث انتقاد بن غفير أن الصفقة تسمح بعودة آلاف ممن وصفهم بـ"الإرهابيين"، وتطلق سراح مئات من الملطخة أيديهم بالدماء.
ويضيف المحامي الدلو أن القناعة بوهم وعبثية الأحكام الإسرائيلية المؤبدة التي تصدر بحق الفلسطينيين، باتت مسموعة أيضا بين رعاة تل أبيب في الولايات المتحدة.
وقد رفضت المنظمة الصهيونية الأمريكية (زوا) اتفاق وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحماس وأدانته، واصفة إياه بأنه "حالة استرضاء مروعة"، وقال رئيسها مورتون كلاين، إن التاريخ علّمنا أن العديد من هؤلاء المفرج عنهم سيعودون لقتل اليهود وسيتسببون في وفيات يهودية في المستقبل أكثر من العدد الذي ننقذه الآن".
وبذات الرؤية السياسية يعرض الخبير بالشؤون الإسرائيلية، مروان عبد الحليم، كيف أن نهج إسرائيل في تعظيم أعداد المحكوميات الفلسطينية المؤبدة أضحى الآن موضع شبهات العبث بالوهم.
وفي حديثه مع "إرم نيوز" بهذا الخصوص، يستذكر أن ثلاث صفقات تبادل أسرى وسجناء تمت بين حماس وإسرائيل منذ عام 2011، كلها كانت تتم تحت اقتضاء كسر المحكوميات الجائرة باستخدام سلاح مقايضة الرهائن.
وسجل ملاحظة لافتة وهي أن الصفقات الثلاث كانت في عهد بنيامين نتنياهو؛ ما يجعله موضع شبهات التفريط العميق.
وفي ذلك يشير عبد الحليم إلى صفقة جلعاد شاليط عام 2011، المسماة " وفاء الأحرار"، والتي جرى فيها تحرير 1027 سجينا بينهم 280 حكما مؤبدا.
ولذلك لم يغب عن بال أي مسؤول إسرائيلي ممن شهدوا أو وقعوا على اتفاقيتي رهائن هجمات طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر 2023، أن هذا الطوفان أطلقه أحد أبرز المحررين في صفقة شاليط، وهو يحيى السنوار الذي كان وعد رفاقه من مؤبدي السجن بأن يحررهم بعملية مقايضة.
ويخلص المحللان، الدلو وعبد الحليم، إلى أن تعميم القناعة بعبثية النهج الإسرائيلي بالأحكام المؤبدة، يعتبر من المستخلصات الرئيسة لصفقة وقف الحرب على غزة.
ما رصدته المنظمات المدنية من حواشي وارتدادات الصفقة، داخل إسرائيل وبين مؤيديها الدوليين، لم يترك شكا بأن هذا الجور في أحكام سجن الفلسطينيين هو ذاته الذي يستولد عملية تالية مؤكدة، لجمع أكبر عدد من الرهائن يستهلكون القيادة الإسرائيلية بالعمل لإطلاق سراحهم.
