تعيش الحركة المدنية في العراق لحظة حرجة من التحولات والتراجع، بعد أن كانت تمثل واجهة الاحتجاجات والمطالبات الشعبية بالتغيير، لتصبح اليوم ـ بحسب نشطاء ـ شريكاً هامشياً في منظومة سياسية يهيمن عليها السلاح والمال الحزبي.
ويأتي هذا التراجع في ظل اندماج عدد من الشخصيات المدنية في التحالفات الحكومية، لا سيما "تحالف الإعمار والخدمات" الذي يتزعمه رئيس الوزراء محمد شياع السوداني، وسط اتهامات بتخليهم عن مبادئ تشرين وشعاراتها التي طالما رفعت ضد "الأحزاب المتحاصصة".
وتتهم قطاعات واسعة من الجمهور المدني قوى ما بعد تشرين بأنها فشلت في تشكيل بديل سياسي جاد، وانخرطت تدريجياً في لعبة التوازنات والمحاصصة، متخلية عن خطابها الذي كان يرفض الدخول في شراكات مع "قوى الأمر الواقع"، سواء كانت دينية أو مسلحة أو عشائرية.
ووجه الناشط السياسي فارس حرام انتقاداً لاذعاً لهذا الواقع، معتبرًا أن الحركة المدنية وصلت إلى مستوى من الانحطاط غير المسبوق في العراق الحديث، وفق تعبيره.
وتمايز خطاب الحراك الاحتجاجي في العراق، بعد تظاهرات 2011 ثم حراك 2015، عن القوى الحزبية التقليدية، إذ تبنت تلك الحركات خطاباً قائماً على مدنية الدولة، والفصل بين السلطات، ومحاربة الفساد، وإنهاء نفوذ الميليشيات داخل المؤسسات.
وتكرس هذا التمايز بوضوح خلال احتجاجات تشرين 2019 التي شهدت مواجهات عنيفة مع قوى مسلحة تابعة لأحزاب السلطة.
لكن السنوات الأخيرة، لا سيما بعد انتخابات 2021، كشفت عن تآكل هذا الخطاب، بعدما دخل عدد من الشخصيات المدنية إلى البرلمان، ثم انتقلت إلى التحالف مع الحكومة أو قوى السلطة تحت مبررات "العمل من الداخل" أو "دعم الاستقرار".
بدوره، قال الباحث في الشأن السياسي علي ناصر إن "ثورة تشرين التي ضحى من أجلها الكثيرون استغلت من قبل بعض الأشخاص من أجل التمركز داخل السلطة".
وأضاف لـ"إرم نيوز" أن "الحراك الذي كان يمثل عمقاً اجتماعياً ووطنيًا عابرًا للطوائف والمناطق تم تفريغه تدريجياً من مضمونه، عبر تحالفات انتهازية، واستخدام شعارات التغيير فقط كشكل، لا كمضمون".
وأشار إلى أن "الدماء التي سالت في الساحات كانت تهدف لتصحيح المسار السياسي، لكن ما حدث هو تكرار نفس الأنماط القديمة بأدوات جديدة، وهو ما خلق شرخاً كبيراً بين الجمهور والنواب الذين يدعون تمثيلهم".
ويقول مختصون إن هذا التحول أضعف الثقة الشعبية بتلك القوى، خاصة في ظل استمرار هيمنة السلاح، وغياب العدالة الانتقالية، وتجميد الملفات الكبرى مثل محاسبة قتلة المتظاهرين، وهي ذات القضايا التي شكلت روح تشرين ومحركها الأساسي.
في المقابل، يبرّر بعض النواب أو الشخصيات المدنية التي انضمت للتحالفات الحالية خياراتهم بأنها "ضرورة واقعية"، ويؤكدون أن الانعزال أو المقاطعة لا يجدي نفعًا في نظام سياسي مغلق.
من جهته، قال النائب حيدر طارق إن "الحكومة الحالية تعاملت مع المستقلين والنواب الجدد بإيجابية، ولم تقص أحداً، ولهذا جاء قرار المشاركة ضمن تحالف الإعمار والخدمات".
وأضاف طارق لـ"إرم نيوز" أن "رئيس الوزراء محمد شياع السوداني أثبت أنه ليس ممثلاً لجهة واحدة، بل لكل القوى السياسية، وقد لمسنا ذلك من خلال تعامله معنا في البرلمان" وفق تعبيره.
وتابع أن "الدخول في هذا التحالف جاء بقرار مدروس، خصوصاً في ظل اعتماد طريقة (سانت ليغو 1.7) التي لا تسمح بالترشح الفردي كما في السابق، بل يتطلب تكوين قوائم وتحالفات قوية لضمان التأثير الانتخابي".
لكن هذا التبرير، وفق محللين، لم ينجح في إقناع الجمهور، لا سيما بعد تجربة البرلمان الأخير الذي شهد ضعفاً واضحاً في أداء النواب المدنيين، وغياب المبادرات التشريعية الجادة، واندماج عدد منهم في شبكات السلطة، إما عبر المناصب أو عبر تقديم الدعم الكامل لبرامج الحكومة.
ومن أبرز النواب الذين انتقلوا إلى القوى السياسية الأخرى، حميد الشبلاوي وحيدر طارق عن محافظة النجف، ونور نافع عن محافظة ذي قار، وآخرون.