يدخل المسار الذي تحاول الحكومة اللبنانية تثبيته عبر توسيع نطاق خطة "درع الوطن" مرحلة أكثر حساسية ودقة، في ظل تحركات أمنية ودبلوماسية تستهدف تحويل حضور الدولة من مجرد واجهة شكلية إلى أداة فعلية لضبط الحدود واستعادة القرار الأمني.
وما يجري خلال الفترة الحالية هو انتقال إلى مستوى عملي أكثر تماساً مع مناطق لطالما احتكرت فيها ميليشيا حزب الله تعريف التهديد، وتحديد قواعد اللعبة.
اللحظة الحالية، بكل ما تحمله من هشاشة وتقاطعات، وفق ما تحدثت به مصادر "إرم نيوز"، تكشف بوضوح أن السلاح الخارج عن الدولة لم يعد مشكلة سياسية فحسب، ولا ملفاً يتداخل بين الداخل والخارج، إنما بات العقبة المركزية التي تعترض قدرة الدولة على فرض سلطتها حين تحاول لأول مرة منذ سنوات اختبار حدود حضورها الأمني بنفسها، لا بالنيابة عن أحد.
وقال مصدر دبلوماسي أمريكي رفيع في بيروت، لـ"إرم نيوز"، إن الإدارة الأمريكية تتابع بدقة تقدّم خطة "درع الوطن"، معتبراً أن الانتقال من المستوى النظري في تنظيم الحدود إلى المستوى التنفيذي يشكّل "الاختبار الأكثر جدية للدولة اللبنانية منذ سنوات طويلة".
وأوضح أن واشنطن ترى في هذه الخطة فرصة غير مسبوقة لإعادة بناء ما تبقّى من الشرعية الأمنية للدولة، شرط ألّا تُفرغ من مضمونها بفعل الضغوط الداخلية.
وأضاف المصدر أن ما يقلق واشنطن فعلياً ليس قدرة الدولة على تنفيذ الخطة، وإنما قدرة حزب الله على تعطيلها تدريجياً من دون إثارة ضجيج سياسي.
وقال المصدر: "حزب الله يمارس في الميدان ما يمكن وصفه بالهندسة الهادئة للفراغ، فيُبقي للدولة مساحة شكلية للتحرك، لكنه يتولى إدارة المشهد الحقيقي عبر شبكات رصد وانتشار تجعل أي توسّع رسمي أقرب إلى الاستعراض منه إلى ممارسة فعلية للسيادة".
وأوضح أن تقارير ميدانية وصلت إلى السفارة الأمريكية خلال الأيام الأخيرة أشارت إلى تحركات غير معلنة لحزب الله على طول بعض القرى الحدودية، تهدف إلى"تحصين نقاط نفوذ حساسة قبل أن تصل وحدات الجيش إليها في إطار التوسّع التدريجي لدرع الوطن".
وقال المصدر إن "هذه التحركات تأتي كإعادة تموضع محسوبة بدقة، هدفها إرسال رسالة مفادها أن الحزب لن يسمح بتغيير قواعد السيطرة على الأرض".
وأشار إلى أن الولايات المتحدة كانت واضحة مع الحكومة اللبنانية في اجتماعات مغلقة: "أي دعم اقتصادي أو أمني إضافي سيكون مشروطاً بنتائج ملموسة لا بتعهدات لفظية"، مضيفاً أن واشنطن أبلغت بيروت بأن "الاستمرار في تنفيذ الخطة يجب أن يكون وفق جدول زمني واضح ومعلن، وليس وفق وتيرة تتحدد بناءً على حساسيات الحزب".
وقال المصدر إن الإدارة الأمريكية تعتبر أن مواجهة السلاح غير الشرعي ليست مسألة صدام مباشر، لكنها "معركة بنيوية تتعلق بمستقبل الدولة نفسها".
وأكد أنه "من منظور واشنطن، لا يمكن لأي دولة أن تستعيد موقعها الإقليمي وتعيد بناء اقتصادها، بينما تسمح لقوة موازية بأن تمسك بقرار الحرب والسلم، وتتحكم بشبكات مالية لا تخضع للرقابة، وتدير مناطق حدودية بطريقة تنافس سلطة الدولة".
وأضاف المصدر أن واشنطن تلاحظ مؤخراً؛ تحولاً نوعياً في المزاج اللبناني، سواء لدى المرجعيات الدينية أو في الأوساط المدنية، مشيراً إلى أن الخطاب الذي ظهر أخيراً حول ضرورة استعادة السيادة هو نتيجة مباشرة لفقدان اللبنانيين الثقة بقدرة الحزب على حماية البلد أو إنقاذه من الانهيار.
وقال إن "هناك قناعة تتشكل بأن استمرار السلاح يعيق أي فرصة لعودة لبنان إلى النظام المالي الدولي".
وأشار المصدر إلى أن اللقاءات التي أجراها الوفد الأمريكي المشترك من وزارة الخزانة ومجلس الأمن القومي قبل أيام كانت واضحة في أهدافها: "لا يمكن للبنان أن يطلب دعماً دولياً بينما تبقى منافذ التهريب مفتوحة، ويتحكم حزب الله بجزء من الاقتصاد الموازي والعمليات المالية العابرة للحدود".
وأكد أن واشنطن تمتلك معلومات دقيقة عن حجم الدور الذي يلعبه الحزب في تعطيل جهود ضبط الحدود.
وبيّن المصدر أن الولايات المتحدة تنظر بارتياح نسبي إلى تجاوب الرئاسة اللبنانية مع ملف توسيع خطة درع الوطن، مشيراً إلى أن واشنطن ترى في هذا التجاوب "إشارة على استعداد الرئاسة لاختبار حدود نفوذ الحزب بطريقة متدرجة، ولكن دون التراجع".
وأضاف: "من الواضح أن الرئاسة تدرك أن أي إنجاز سياسي أو اقتصادي لا يمكن أن يتحقق ما لم تستعد الدولة سيادتها على الحدود والسلاح".
كما كشف أن الولايات المتحدة ناقشت مع المسؤولين اللبنانيين خارطة تقنية لتفعيل شقَّي المراقبة الحدودية والرقابة المالية، تتضمن زيادة عدد كاميرات المراقبة، وتوسيع مهام وحدات متخصصة في مكافحة التهريب، وتعزيز التعاون الاستخباراتي بين أجهزة لبنانية وغربية.
وقال المصدر: "هذه الإجراءات لن تُعلن كلها، لكن جزءاً كبيراً منها سيتطلب تنفيذاً سريعاً، وهو ما سيضع الحزب أمام اختبار صريح لقدرته على التكيف مع واقع جديد يقلص من تحكمه بالميدان".
وأفاد بأن واشنطن لا تبحث عن مواجهة مباشرة مع حزب الله، لكنها لن تقبل استمرار واقع يمكّن الميليشيا من تعطيل الدولة من الداخل.
وأضاف أن "السلاح هو العقبة المركزية التي تمنع لبنان من العودة إلى نفسه. ما نراه اليوم هو صراع حول تعريف لبنان؛ فهل هو دولة لها مؤسسات قادرة، أم كيان هشّ يعيش تحت ما يشبه وصاية أمنية غير رسمية".
وختم المصدر بالقول: "المرحلة المقبلة ستختبر جدّية الدولة اللبنانية. إذا استطاعت الحكومة متابعة تنفيذ درع الوطن دون تراجع، ستجد واشنطن وأصدقاء لبنان في المنطقة مستعدين لمضاعفة الدعم. أما إذا خضعت الدولة لضغوط السلاح مرة جديدة، فستبقى البلاد رهينة الانهيار، ولن يكون لدى المجتمع الدولي كثير من الصبر لإعادة تدوير الأزمة".
من جانبه، قال مصدر سياسي لبناني بارز، قريب من أوساط الرئاسة والدائرة التي تعمل على متابعة تنفيذ خطة "درع الوطن"، إن الدولة تواجه اختباراً حقيقياً يتعلق بقدرتها على إعادة تعريف دورها في الجنوب والبقاع، وأن "المعركة لم تعد حول الخطة نفسها، بل حول ما إذا كان يمكن للدولة أن تفرض حضوراً أمنياً يتجاوز الخطوط الحمراء التي رسمها حزب الله خلال عقدين".
وأوضح المصدر، في حديث لـ"إرم نيوز"، أنه خلال الأسابيع الأخيرة قررت الدولة أن تنتقل من حضور رمزي إلى حضور فعلي، "وحزب الله يدرك تماماً أن هذا التحول لا يشبه أي محاولة سابقة".
وأضاف أن الحزب بدأ عملياً بعرقلة تنفيذ الخطة منذ اللحظة الأولى التي شعر فيها بأن انتشار الجيش قد يقترب من شبكات نفوذ حساسة.
وقال المصدر اللبناني: "العراقيل لا تأتي في شكل مواجهات أو اعتراضات مباشرة، بل عبر ما يمكن تسميته بتكتيك التبريد والتجميد؛ أي خلق ظروف ميدانية وإدارية تجعل تنفيذ الخطوات الأمنية يحتاج إلى موافقات غير مكتوبة، أو إلى مفاوضات جانبية، أو إلى إعادة ترتيب الانتشار تحت سقف تحفظات الحزب".
وتابع: "في بعض المناطق الحدودية، كان من المفترض أن تنتشر وحدات الجيش خلال عشرة أيام، لكن الفريق الميداني تلقى إشارات غير مباشرة من قيادات محلية قريبة من الحزب تطلب التريث، بحجة الظروف العائلية والعشائرية. هذا النوع من العرقلة الناعمة يهدف إلى منع الدولة من تكريس واقع جديد دون أن يعلن الحزب معارضة رسمية".
وأضاف المصدر اللبناني أن حزب الله يستخدم أيضاً أسلوب "الاستباق"، أي أن يعيد ترتيب نقاطه قبل وصول الجيش إلى المنطقة، بحيث يبدو أن الدولة تدخل في مساحة ضيقة لا تهدد نفوذه، بدل أن تتمكّن من فرض انتشار كامل.
وقال: "هذا الاستباق يخلق واقعاً عملياً، يفيد بأن الجيش موجود شكلياً، لكن التحكم الفعلي بالمسار الحدودي يبقى لدى الحزب".
وأوضح أن "واحدة من أهم تطورات المرحلة الراهنة هي أن المنطق الذي قدّمه الحزب لسنوات، وهو أنه يحفظ الاستقرار مقابل احتفاظه بالسلاح، بدأ يتفكك تدريجياً".
ولفت إلى أن "الناس يرون بأعينهم أن الجنوب لم يعد منطقة استقرار، وأن الخطر بات دائماً وحاضراً، وأن سيطرة الحزب على المعادلة الأمنية لا توفر حماية حقيقية للدولة ولا للحدود".
وتابع المصدر اللبناني: "هناك خطاب جديد يظهر في بيئة الحزب نفسها، يتساءل بصراحة عن فائدة السلاح إذا كانت كلفته الاقتصادية والسياسية تفوق أي دور دفاعي. نحن أمام تحوّل في المزاج العام، وما كان يعتبر من المسلّمات خلال السنوات الماضية أصبح اليوم موضع نقاش".
وأكد أن مؤسسات الدولة تلتقط هذا التحول، وقال:"الدولة لم تعد تريد الدخول في مبدأ المقايضة الذي فرضه الحزب والمتمثل باستقرار نسبي مقابل احتكار السلاح؛ لأن هذا الاستقرار لم يعد موجوداً، ولأن البلد يدفع أثماناً باهظة مقابل معادلة لم تعد فعّالة".
وأوضح المصدر أن الرئاسة اللبنانية تعتبر أن اللحظة الحالية "غير قابلة للتأجيل"، وأن التحرك الأمني الجاري ليس خطوة موضعية بل هي مسار مستمر سيزداد وضوحاً خلال الأسابيع المقبلة.
وأشار إلى أن دوائر الرئاسة ترى أن الدولة لا تسعى إلى مواجهة داخلية مع الحزب، لكنها أيضاً لم تعد تقبل بمنطق الازدواج الأمني، منوهاً "نحن أمام مرحلة جديدة، فيها إصرار على تطبيق الخطة كاملة لا مجتزأة؛ لأن أي اجتزاء محسوب هو انتصار مجاني للحزب".
بدوره، قال الباحث المتخصص في شبكات النفوذ غير الرسمي في الشرق الأوسط، ألكسندر روبرتسون، في حديث لـ"إرم نيوز"، إن المرحلة الحالية التي تمر بها الدولة اللبنانية في تنفيذ خطة "درع الوطن" تمثل "أكثر اللحظات حساسية منذ انتهاء حرب تموز"، نظراً لكونها تختبر للمرة الأولى قدرة الدولة على دخول مناطق كانت تعتبر خارج نطاق قرارها الأمني لعقود.
وأوضح روبرتسون أن التوسع التدريجي في تنفيذ الخطة "لا يتعلق بزيادة عدد الدوريات أو تشكيل غرف عمليات جديدة فقط، وإنما بالانتقال إلى مستوى يعيد تعريف من يمسك بفضاء الحدود".
وأضاف:"للمرة الأولى، تُجري الدولة اختباراً عملياً في مناطق كانت تحت إدارة أمنية موازية، وهذا التحول يصطدم مباشرة بمنظومة حزب الله التي تعوّدت على التحكم الكامل بالحدود باعتبارها امتداداً لجغرافيا نفوذه السياسي والعسكري".
ورأى أن هذا التوسع يفتح الباب أمام مواجهة غير مباشرة بين منطق الدولة ومنطق السلاح، عبر تقليص قدرة الحزب على العمل في الظل.
وقال الخبير إن أحد أبرز ملامح اللحظة الراهنة هو تفكك المعادلة التي طالما استخدمها حزب الله لتبرير امتلاك السلاح، موضحاً أن "الاستقرار النسبي الذي كان الحزب يقدمه كبديل للدولة لم يعد قائماً. الانكماش الاقتصادي، والضغط الدولي، كلها عوامل كشفت أن السلاح لم يعد ضمانة لأي توازن، بل أصبح عبئاً يعرقل تحرك الدولة ويُبقي لبنان في منطقة رمادية لا تستطيع البقاء طويلاً فيها".
وبيّن أن الضغوط الاقتصادية على لبنان، واشتراطات الدعم الدولي، وعودة الانفتاح المشروط، جميعها تسحب البساط تدريجياً من تحت سردية الحزب القديمة، التي لم تعد تقنع جمهوره قبل خصومه.
وأكد روبرتسون أن المرحلة الحالية تشكّل "لحظة إعادة ضبط" لمسار الدولة اللبنانية بعد سنوات من الانكماش.
وقال: "الدولة اللبنانية اليوم أمام اختبار قدرتها على إنتاج سلطة أمنية واحدة. خطوة تنفيذ درع الوطن ليست معزولة، فهي جزء من تحول بنيوي واسع، تحاول من خلاله مؤسسات الدولة إثبات قدرتها على العمل خارج منطق التعايش القسري مع قوة موازية".
وأشار إلى أن الرئاسة اللبنانية "تبدو أكثر ثباتاً هذه المرة في دعم الخطة، لأنها تدرك أن نجاحها سيمنح الدولة ورقة قوة في التفاوض مع المجتمع الدولي".
وختم روبرتسون قائلاً: "استمرار خطة درع الوطن سيعتمد على عاملين: أولاً، قدرة المؤسسات اللبنانية على الحفاظ على زخم التنفيذ وعدم الخضوع للإيقاع الذي يفرضه الحزب. وثانياً، استمرار الضغط الدولي على الحزب، ووضوح الرسالة بأن الدولة لن تحصل على أي دعم حقيقي ما لم تتحرك باتجاه احتكار السلاح".
وأضاف: "لبنان يقف عند عتبة تحول، قد لا تكون دراماتيكية الآن، لكنها كفيلة بتغيير قواعد اللعبة على المدى المتوسط إذا نجحت الدولة في الصمود أمام محاولات التعطيل".