رأت مصادر لبنانية وأمريكية، أن زيارة الموفدة الأمريكية مورغان أورتاغوس إلى لبنان، تكشف عن تحوّل واضح في المقاربة الأمريكية تجاه بيروت، التي وضعتها الزيارة بين الاستقرار السياسي والقرار الأمني.
وبحسب مصادر دبلوماسية خاصة، فإن واشنطن أبلغت شركاءها أن المهلة الممنوحة لبيروت لتنفيذ خطوات ملموسة في ملف السلاح تقاس بالأسابيع.
ويبدو أن الدبلوماسية الأمريكية باتت تفرض مساراً محدداً عنوانه استعادة الدولة لقرارها الأمني والسيادي، من دون أن تبقى أسيرة لتوازنات "السلاح مقابل الاستقرار"، بحسب مراقبين.
وقال مصدر أمريكي مطّلع على تفاصيل زيارة أورتاغوس، إن لقاءات الأخيرة بالمسؤولين اللبنانيين ستكون كاختبار لمدى استعدادهم للذهاب نحو تحييد السلاح عن القرار السياسي، مشدداً على أن واشنطن لا ترى في سلاح حزب الله تهديداً لإسرائيل فقط، وإنما كأداة لتعطيل الدولة اللبنانية من الداخل.
وبيّن المصدر، وهو مستشار في ملف الشرق الأوسط التابعة لوزارة الخارجية الأمريكية، أن هناك "رسالة أساسية تحملها أورتاغوس إلى بيروت تتمثل في أنه لا يمكن لأي حكومة لبنانية أن تتوقّع استمرارية أي دعم اقتصادي أو عسكري ما دامت غير قادرة على حسم مسألة السلاح غير الشرعي، وعلى رأسه سلاح حزب الله".
وأضاف المصدر لـ"إرم نيوز": "نحن لا نطلب من لبنان قراراً فورياً بتفكيك هذا السلاح، لكننا نطالب بإجراءات ملموسة تُظهر أن القرار الأمني يعود للدولة، وأن الجيش اللبناني ليس مجرد واجهة شكلية في الجنوب".
وذكر أن الإدارة الأمريكية ترى في احتمالات تعثّر خطة الجيش اللبناني كمؤشر خطير على ضعف الإرادة السياسية، وأن التباطؤ أيضاً في تنفيذ هذه الخطة "سيُفهم دولياً على أنه عجز، خاصة في ظل وجود قيادة عسكرية لبنانية تقول إنها جاهزة للتوسّع ميدانياً".
ولفت المصدر إلى أن التوجه الأمريكي حالياً لا يقوم على محاولة تفكيك الحزب بشكل مباشر، وإنما على "تحصين بنية الدولة ضد استخدام الحزب لسلاحه كورقة داخلية"، من خلال تعزيز دور الجيش والضغط لتقليص تأثير الحزب في المؤسسات الأمنية والمالية.
وأشار إلى أن واشنطن باتت تعتبر العلاقة بين بيروت وطهران "غير متوازنة وخطرة على استقرار لبنان"، وأن الإدارة الأمريكية "لم تعد تفصل بين النفوذ الإيراني السياسي والسلاح الخارج عن الدولة"، بل تعتبرهما بنية واحدة يجب محاصرتها تدريجياً.
وأكد المصدر أن ما تريده واشنطن ليس فرض حلول جاهزة على لبنان، لكن ما يهم واشنطن التأكد من أن السلطات اللبنانية لا تزال قادرة على تنظيم موقف وطني واضح من مسألة السلاح، وأن أي دعم دولي في المرحلة المقبلة سيتوقف على مدى وضوح هذا الموقف وليس على نتائجه النهائية.
ونوه إلى أن زيارة أورتاغوس تهدف بالدرجة الأولى إلى إعطاء فرصة جدّية للدولة اللبنانية كي تستعيد موقعها، عبر خطوات متدرجة تبدأ من دعم انتشار الجيش وتعزيز حضوره جنوباً، والتأكيد على أن أي مفاوضات حدودية أو أمنية يجب أن تُدار حصراً من قبل مؤسسات الدولة.
وشدد المصدر على أن الجانب الأمريكي يأخذ بالاعتبار صعوبة اللحظة اللبنانية، سواء اقتصادياً أو سياسياً، لكنه يعتبر أن الفرصة متاحة لإثبات جدّية الدولة في التقدم نحو ترتيب الوضع الأمني بما يخدم الاستقرار، وليس بالضرورة إنهاء سلاح حزب الله دفعة واحدة، بل بمنع استخدامه كورقة داخلية تربك القرار الحكومي.
وذكر أن واشنطن لا تمانع في أن يأخذ لبنان وقته في معالجة ملفات السيادة، لكنها تحتاج إلى إشارات واضحة بأن هناك قراراً حقيقياً على مستوى الدولة بأن تكون المؤسسة العسكرية هي الطرف الوحيد المعني بملف الأمن، بعيداً عن ازدواجية القرار أو تداخل الحسابات الإقليمية.
بدوره ذكر مصدر سياسي لبناني لـ"إرم نيوز"، أن التعامل الرسمي مع زيارة أورتاغوس يجري على قاعدة "الاستماع والنقاش"، وليس تقديم التزامات مسبقة، غير أن هناك إدراكا داخليا بأن الرسائل الأمريكية الأخيرة أكثر وضوحاً من السابق، وأنها تضع السلاح خارج الدولة ضمن أولويات المعالجة.
وقال المصدر، وهو عضو بارز في فريق حكومي يتولى ملف العلاقات الخارجية، إن الجانب اللبناني يتعاطى مع مطلب حصرية السلاح بواقعية، ويعتبره جزءاً من نقاش طويل لا يمكن حسمه سياسياً أو أمنياً بقرار واحد لحظي، لكنّه يؤيد تعزيز دور الجيش ورفع مستوى التنسيق الميداني معه، مع تجنّب أي خطوات يمكن أن تُفسَّر على أنها استفزازية.
ولفت إلى أن الحكومة اللبنانية، رغم ضيق هامشها السياسي والمالي، ليست في موقع المواجهة مع المجتمع الدولي، بل تحاول الحفاظ على خيوط التواصل وتقديم إشارات تعاون، لكنها لا تملك وحدها أدوات فرض الحل، في ظل خروقات إسرائيلية وتصعيد شبه مستمر.
وكشف المصدر أن بعض الأطراف داخل الحكومة طرح داخلياً فكرة فصل المسار الأمني عن السياسي، أي أن تلتزم الدولة بإعادة الانتشار الميداني للجيش في الجنوب بغضّ النظر عن تقدّم النقاش حول استراتيجية الدفاع الوطنية أو مصير سلاح الحزب.
وأشار إلى أن التفاوض غير المباشر مع إسرائيل، من منظور الدولة، لم يُطرح حتى الآن كخيار سياسي، وإنما كمسار تقني للتهدئة وضبط التصعيد، بشرط أن يكون تحت مظلة الجيش اللبناني والآليات المعتمدة كـ"الميكانيزم"، من دون فتح أي أبواب على مسارات تطبيع لا إجماع عليها.
وأوضح أن المطلوب اليوم، من وجهة النظر الرسمية، ليس تصفية الحسابات الداخلية أو استعراض المواقف، وإنما إيجاد مساحة تفاهم وطني تحفظ الحد الأدنى من القرار السيادي، وتخفّف من الضغوط الدولية التي باتت تتقاطع عند نقطة واحدة متمثلة في عدم إمكانية أن تستمر الدولة بوضعها الحالي ما لم تسترجع دورها في الملف الأمني.
من جهتها، قالت الباحثة الأمريكية إلين كراوس، إن زيارة أورتاغوس تأتي في سياق إعادة ترتيب أولويات واشنطن في لبنان، انطلاقاً من قناعة متنامية داخل دوائر القرار الأمريكي بأن الوضع الحالي لا يُنتج استقراراً فعلياً، إنما يُبقي لبنان في موقع المراقب غير القادر على إدارة ساحته.
وأضافت الباحثة المتخصصة في ملفات شرق المتوسط والسياسات الأمريكية، أن أية رسائل أمريكية في هذه الزيارة تأتي في سياق ضبط توقيت سياسي.
وبيّنت لـ"إرم نيوز" أن "هناك دعمًا مستمرا للجيش والمؤسسات، لكن هذا الدعم مشروط بقدرة الدولة على إظهار قرار سيادي متماسك، خصوصاً في ما يتعلق بالسلاح وملف التفاوض مع إسرائيل".
ولفتت الباحثة كراوس إلى أن فتح أي مسار تفاوضي مع إسرائيل لا يمكن أن يكون ذا جدوى إذا لم يكن القرار الأمني بيد الدولة وحدها، مضيفة أن "الطرف الإسرائيلي يراقب عن كثب، والإدارة الأمريكية معنية بمنع أي انزلاق، لكن لا يمكن الحديث عن مفاوضات حقيقية في ظل تعدد مصادر القرار، أو حين يُستخدم التهديد الأمني الداخلي لإيقاف أي خطوة تفاوضية".
وشددت على أن هناك قناعة داخل مراكز صنع القرار في واشنطن بأن سلاح حزب الله أصبح أداة سياسية تُستخدم في مواجهة الدولة اللبنانية أحيانًا، لافتة إلى التحول التدريجي في المقاربة الأمريكية من سياسة "الاحتواء الإيجابي" إلى استراتيجية الضغط المشروط.
وبيّنت كراوس كيف أن واشنطن باتت تميل إلى ربط الاستقرار المالي والسياسي بوجود قرار سيادي واضح بيد الدولة، وترى أن التفاوض مع إسرائيل قد يتحول إلى أداة ضغط لإضعاف الذرائع التي تبرّر استمرار السلاح الموازي.
ونوهت إلى أن واشنطن لا تطالب الدولة اللبنانية بقرارات حادة، لكنها تنتظر مساراً واضحاً يعكس أن هناك نية حقيقية لتفكيك منظومة النفوذ الإيراني في الداخل، ولو تدريجياً.
ومضت الباحثة كراوس قائلة: إن لبنان اليوم أمام اختبار سيادي حقيقي، حيث تُمثّل زيارة أورتاغوس ذروة مرحلة جديدة من الضغوط الدولية، هدفها المعلن دعم الدولة اللبنانية، وهدفها الضمني إنهاء المعادلة التي تسمح بازدواجية السلطة والنفوذ، وبينما يراهن حزب الله على الوقت، تراهن واشنطن على الواقع، وعلى أن الدولة اللبنانية، قد تجد في هذه اللحظة فرصة لتتحول إلى دولة فاعلة.
ويتمثل الملف المركزي في زيارة أورتاغوس في تثبيت مبدأ حصرية السلاح بيد الدولة، وهو مطلب تحوّل من شعار إصلاحي إلى شرطٍ سياسي–أمني يربط أي دعم دولي للبنان بمدى قدرته على تنفيذ خطة الجيش بشكل فعلي.
وتعتبر واشنطن أن ازدواجية السلطة العسكرية هي السبب الأعمق لانهيار الدولة، وأن أي محاولة لإعادة بناء المؤسسات يجب أن تبدأ من ضبط السلاح وإخراجه من الحسابات الداخلية والإقليمية.
ولا يمكن فصل زيارة أورتاغوس الحالية عن جولتها على الحدود الشمالية لإسرائيل، التي رافقها فيها وزير الأمن الإسرائيلي وممثلون عن القيادة المركزية الأمريكية (سنتكوم)، التي كانت تمهيداً لتفاهم أمني ميداني على ما يبدو يعيد تعريف دور لبنان في المعادلة الحدودية.
وبات واضحاً أن واشنطن تريد أن تترجم فكرة "حصرية السلاح" إلى إجراءات عملية على الأرض، تبدأ من الجنوب، وتُختبر فيها قدرة الدولة على فرض سلطتها في أكثر المناطق حساسية.
وتحمل زيارة أورتاغوس أيضاً ملفاً سياسياً حساساً يتمثل في تفعيل آلية تفاوضية مع إسرائيل، يُراد منها إعادة تثبيت وقف الأعمال العدائية وتوسيع النقاش نحو ملفات حدودية وبحرية واقتصادية، إذ تدرك واشنطن أن نجاح هذا المسار مرهون بمدى قدرة الحكومة اللبنانية على تقديم نفسها كطرفٍ موحّد يملك قرار الحرب والسلم.
إن الهدف الأمريكي من هذا التحرك ليس دفع لبنان إلى تطبيع مباشر بالضرورة، ولكن الأهم هو تحييد الجنوب عن الصراع المفتوح وتحويله إلى منطقة آمنة محكومة بقرار الدولة وحده.
وذلك المسار يضرب جوهر السردية التي يقوم عليها سلاح حزب الله، إذ يجرّده من ذريعة "الردع"، ويعيد تعريف العلاقة مع الدولة على أساس جديد يقوم على منع وجود سلاح خارج الشرعية.
في المقابل، يجد حزب الله نفسه أمام معادلة غير مسبوقة، فهناك ضغط خارجي متزايد، وتراجع داخلي في قدرته على تبرير سلاحه أمام أزمة اقتصادية خانقة.
ومن هناك كانت إطلالة أمينه العام نعيم قاسم الأخيرة، التي جاءت كمحاولة دفاعية لملء الفراغ السياسي، إذ أعاد التأكيد على جهوزية الحزب لـ"مواجهة أي عدوان"، لكنه حرص في الوقت نفسه على القول إن الحزب لا يريد الحرب.
وتعبّر تلك الازدواجية عن مأزق حقيقي داخل الحزب، ما يعني أنه يدرك أن استمرار وضعه المسلح أصبح عبئاً على الدولة وعلى بيئته الاجتماعية، وأن واشنطن تراهن على تآكل شرعيته من الداخل ليس عبر السلاح فقط، وإنما عبر فقدان الغطاء الوطني.