الكرملين: مشاركة الأوروبيين في مفاوضات أوكرانيا "لا تبشّر بالخير"
في ظل التحولات الجيوسياسية العالمية المتسارعة، قدم الباحث السياسي، سفير بولندا السابق لدى السعودية والعراق، كشيشتوف بومينسكي، قراءة معمّقة للوضع الراهن في المنطقة، مشيرا إلى أن ميزان قوى جديد بدأ يتشكل في الشرق الأوسط.
وحلّل بومينسكي، الذي يتمتع بخبرة طويلة في شؤون المنطقة وعلاقاتها الدولية، في حوار مع "إرم نيوز"، تأثير الهجوم الإسرائيلي الأخير على الدوحة، ودور قطر كوسيط دولي، مقيّما قوة إسرائيل المتنامية في المنطقة.
كما استعرض التحديات التي تواجه دول الخليج، والثقة بالمظلة الأمنية الأمريكية، ومكانة أوروبا أمام الأزمات المتسارعة، مع تقديم رؤى حول "الشرق الأوسط الجديد" خلال السنوات المقبلة.
وفي ما يلي نص الحوار:
العلاقات الدولية تشهد اختراقًا ومنافسة شرسة بين القوى الكبرى. كما أن الشرق الأوسط يدخل مرحلة جديدة من عدم اليقين. أجزاء واسعة من المنطقة منهارة بشكل عميق والتطورات المستقبلية غير واضحة.
ميزان القوى القديم اختفى خلال العامين الماضيين. فقدت إيران مجال نفوذها، ما خلق فراغًا تسعى إلى ملئه القوى الأشد قوة، وفي مقدمتها إسرائيل، إضافة إلى تركيا والسعودية. غياب فرص الدفع نحو حل الدولتين في الصراع الفلسطيني–الإسرائيلي يغذي استمرار النزاعات ويفكك استقرار المنطقة بأكملها.
إسرائيل تبدو مستعدة لقبول عزلة إقليمية طويلة الأمد نتيجة سياساتها في غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية. أما دول الخليج العربي فيُنتظر أن تؤدي دور عامل استقرار واسع ضروري لتنفيذ خطط التحول، فيما تواجه في الوقت نفسه تهديدات وجودية وسط بيئة سياسية وأمنية واقتصادية متقلبة، تشمل تفككًا تدريجيًا لعدد من الدول العربية مثل سوريا ولبنان.
قلت إن الهجوم الإسرائيلي على الدوحة يقوّض الثقة والمصداقية والولاء المتبادل القائم منذ عقود بين الولايات المتحدة وحلفائها في الخليج، ويدمّر الوهم بأن واشنطن ستحمي المصالح الأمنية لدول مثل قطر إذا تعارضت مع المصالح الإسرائيلية.
ربما لا ينبغي أن يكون الأمر مفاجئًا، بل مجرد تذكير بمتطلبات "السياسة الواقعية" المطبقة منذ سنوات.
إسرائيل تريد السلام، لكن بشروطها، مع العرب، وليس مع الفلسطينيين أو أي طرف إقليمي يدعم قضيتهم. الهدف المباشر للحكومة الإسرائيلية الحالية هو السيطرة على كامل فلسطين وتعميق ضعف وتفكك المحيط. هذا يعني أن لا مجال لتسوية سياسية صادقة في ظل هذه الفلسفة. حياة الرهائن لا تهم. الكوارث الإنسانية كذلك.
قطر، ومعها غالبية أعضاء الأمم المتحدة والرأي العام الدولي، تُظهر أن مقاربة مختلفة ممكنة وضرورية، كما في وساطتها بين الولايات المتحدة وطالبان وخدماتها الدبلوماسية الأخرى. من يريد حلًا حقيقيًا يجب أن يقبل بوسيط نزيه أو يفاوض مباشرة. قتل الوسطاء يعني قتل فرص التسوية والسلام.
قطر ودول الخليج الأخرى لا تملك بديلًا أمنيًا. في بعض الحالات، المظلة المثقوبة أفضل من غيابها. عاجلًا أم آجلًا يمكن إصلاحها أو ينتهي المطر. لكن في الوقت نفسه يعني ذلك أن على الأمريكيين إعادة تقييم مصالحهم في المنطقة وتنسيق علاقاتهم مع الشركاء الرئيسيين، حتى لو لم تكن لديهم رؤية واضحة لمستقبلها.
بعد الهجوم، ستتقلص الثقة أو تتقلص أكثر. وقد يترك ذلك أثرًا إيجابيًا يقود إلى تعزيز التعاون الإقليمي وتشكيل تكتل فعّال قادر على حماية مصالحه وتوسيع نطاق الأمن والاستقرار والتعافي.
تراجع القدرة الأمريكية على فرض رؤيتها على دول أخرى واضح منذ زمن طويل. الرئيس ترامب أراد صرف الأنظار عن هذا الواقع، مع علمه بأن الولايات المتحدة ما زالت قوية عسكريًا بما يكفي. لكن في الشرق الأوسط، غالبًا ما قبل الأمريكيون بمبدأ "إسرائيل أولًا". ليس بالأمر الجديد.
سماح ترامب بالهجوم الإسرائيلي على قطر مجرد تأكيد لممارسة قائمة وراسخة. هل ستستمر إلى الأبد؟ يومًا ما ستتكشف الجرائم الإسرائيلية في غزة وفظائع الضفة الغربية، ومعها وعي المجتمع الدولي الراسخ بضرورة بناء الدولة الفلسطينية.
لا يمكن للولايات المتحدة أن تستعيد مكانتها في الجنوب العالمي دون العودة إلى المبادئ العالمية للقانون الدولي. العالم يتحول إلى متعدد الأقطاب. والسؤال: من سيكون قطب الشرق الأوسط في هذا الإطار؟ إسرائيل تطمح لذلك.
الوساطة الناضجة والعزيمة الصادقة للدبلوماسية القطرية في تحقيق نتائج إيجابية محل احترام عالمي، مع بعض الاستثناءات القليلة. أعتقد وآمل أن الهجوم الأخير لن يغيّر موقف الدوحة. ببساطة، هذا هو الطريق الصحيح. النزاعات والمشكلات الدولية لا تُحل باستخدام القوة وحدها، بل لا بد من مكوّن سياسي. تاريخ الشرق الأوسط، بما في ذلك "الحرب على الإرهاب" المستمرة بلا نهاية، مثال واضح.
كثيرون حول العالم، بمن فيهم أوروبيون، يتمنون استمرار الجهود القطرية للسلام، بما في ذلك في غزة، بما ينسجم مع أنشطة الأمم المتحدة والجامعة العربية لحفظ السلام. المناقشة العامة في الأمم المتحدة حول فلسطين، المنعقدة هذه الأيام، مثال جيد.
الآن إسرائيل هي القوة الإقليمية الحقيقية الوحيدة. موقعها قائم على بناء عسكري واستخباراتي ضخم ومتطور، وتصميم حكومتها الحالية، والدعم غير المحدود من الولايات المتحدة، وعجز القوى الأوروبية، وانشغال الصين وروسيا، إضافة إلى ضعف البيئة الإقليمية.
لذلك، تعتقد إسرائيل أنها قادرة على التصرف كما تشاء وحيثما تشاء، دون حاجة لطلب إذن. ولكن يجب التنبه إلى أن ميزان القوى الجديد في الشرق الأوسط لا يزال قيد التشكل.
كما قلت سابقًا، لا أرى بديلًا أمنيًا في الوقت الراهن. لكن هناك مجالا لإعادة تقييم العلاقات القائمة وتحسينها، وإضافة قيمة عبر تعزيز التنسيق والتعاون الإقليمي، وإقناع الولايات المتحدة بأن السلام الدائم في المنطقة لا يمكن أن يتحقق إلا على أساس الدولة الفلسطينية.
عندها فقط يمكن فتح الطريق أمام أمن إقليمي، وتطبيع طويل المدى مع إسرائيل، واندماج إقليمي من الخليج إلى المتوسط، ما يمنح الولايات المتحدة فرصة للتفرغ لأولويات استراتيجية أخرى.
برأيي "قليل جدًا، ومتأخر جدًا". فعلى الرغم من أن أوروبا استوردت لعقود كل المشكلات الممكنة من الشرق الأوسط -من القضايا الأمنية إلى الهجرة- فإنها فعلت القليل جدًا لحماية مصالحها أو المساعدة في حل المشكلات في جوارها الجنوبي، معتبرة أنه ملعب للولايات المتحدة وإسرائيل.
اليوم هناك تحول نسبي وفهم أفضل بأن الوضع الراهن في المنطقة لا يهدد القيم والمصالح الأوروبية فحسب، بل مستقبل أوروبا نفسها، التي تواجه بؤرتي صراع كبيرتين.
للإجابة بدقة نحتاج إلى كرة بلورية. المشروع لا يزال قيد الإنشاء. هناك الكثير من المجهول في المعادلة. كثير من دول المنطقة كانت تأمل بعودة الرئيس ترامب. لكنه أظهر الآن استعداده لأخذ الكثير من هذه العلاقة وتقديم القليل بالمقابل. القيادة الإسرائيلية الحالية، بعدائها للفلسطينيين وخططها التوسعية وارتباطاتها الدينية، لا يمكن الوثوق بها.
العديد من الدول العربية تعاني جروحًا قديمة. بناء مستقبل أفضل في المنطقة يجب أن يبدأ من إقصاء الجماعات المتطرفة، عربية أو مسلمة أو يهودية على السواء.
الكثير يعتمد على دول الخليج العربي، فهي مستقرة وطموحة وتحظى باحترام دولي، وتمتلك موارد ضخمة وسياسات متوازنة. كما أرى إمكانات كبيرة في تعزيز التعاون بين دول مجلس التعاون الخليجي والاتحاد الأوروبي، وهما جاران يواجهان تحديات مشتركة ويتقاسمان مصالح طويلة المدى.