لم تكن الانتخابات البرلمانية التي شهدها العراق، مجرد حدث محلي تسعى فيه القوى المختلفة إلى تعزيز حضورها، بل إنها تعكس أيضاً حجم نفوذ كل من واشنطن وطهران في المشهد السياسي العراقي، حيث ترى الباحثة في العلاقات الدولية والمحللة السياسية السابقة في معهد "وودرو ويلسون" الأمريكي، هبة القدسي، إن الانتخابات العراقية تُمهّد لتكرار نموذج "التوافق الطائفي"، لكنها تحمل أيضًا إشارات إلى توازن جديد بين واشنطن وطهران، وسط ضغوط اقتصادية غربية متزايدة على بغداد.
وذكرت القدسي في حوار مع "إرم نيوز"، أن "الإدارة الأمريكية برئاسة دونالد ترامب تستخدم أدوات اقتصادية مثل الدولار، والعقوبات، لدفع القوى العراقية نحو الاعتدال".
ورأت أن غياب التيار الصدري عزز قبضة الإطار التنسيقي على المشهد السياسي، مرجحة أن يتولّى محمد شياع السوداني ولاية ثانية.
وتاليًا نص الحوار:
كيف تنظرون إلى شكل الحكومة العراقية المقبلة بعد هذه الانتخابات؟ وهل تتوقعون استمرار نموذج "التوافق" أم الذهاب نحو أغلبية سياسية؟
بناءً على النتائج الأولية للانتخابات البرلمانية التي أجريت، في 11 نوفمبر/تشرين الثاني 2025، يبدو أن الحكومة المقبلة ستكون شكلًا معدلًا من نظام "التوافق" الطائفي الذي يقسم المناصب الرئيسة بين المكونات: رئيس الوزراء شيعي، ورئيس البرلمان سني، ورئيس الجمهورية كردي. هذا النموذج، الذي يعود إلى العام 2005، يُعد وسيلة للحفاظ على الاستقرار، لكنه يُنتقد بشدة بسبب الفساد، وتوزيع نحو 1000 منصب من "الدرجات الخاصة" عبر صفقات سياسية.
مع مقاطعة مقتدى الصدر للانتخابات، بات الإطار التنسيقي – الذي يضم قوى شيعية مقربة من إيران، بينها ائتلاف السوداني، وتحالف دولة القانون بزعامة نوري المالكي – القوة الأكبر، بانتظار إعلان النتائج النهائية، ومن المتوقع أن يحصد بين 140 و160 مقعدًا من أصل 329، ما يرجّح استمرار "التوافق"، مع حاجتهم إلى تحالفات مع السنة والأكراد لتشكيل الحكومة.
هل نتائج الانتخابات الحالية ستقود إلى استقرار سياسي أم إلى مرحلة جديدة من الصراع داخل المكونات؟
الانتخابات أفرزت استقرارًا نسبيًا قصير الأمد، لكنه هش. نسبة الإقبال المنخفضة تعبّر عن فقدان الثقة بالنظام السياسي، لكنها أيضًا تقلل من احتمالات احتجاجات شعبية فورية كما حدث في 2019، ومع ذلك، الصراعات الداخلية تلوح في الأفق: داخل البيت الشيعي بين السوداني والمالكي، وبين القوى السنية بسبب انقسام "تقدم" و"السيادة" و"عزم"، فضلًا عن التوترات الكردية المستمرة بين الحزب الديمقراطي، والاتحاد الوطني.
الاستقرار مرهون بسرعة تشكيل الحكومة خلال الأشهر الستة المقبلة، وإلا قد يتجدد التوتر، خاصة مع الضغوط الاقتصادية، وتزايد نفوذ الميليشيات.
إلى أي مدى يمكن القول إن التدخلات الغربية، خاصة الأمريكية، ما زالت تؤثر في صياغة التوازنات داخل البرلمان العراقي؟
التدخل الأمريكي لم ينتهِ، بل أصبح أكثر نعومة وأقل علنية، واشنطن تراقب المشهد العراقي بعناية، وتضغط عبر أدوات مالية واقتصادية، مثل: فرض عقوبات على بنوك عراقية يُشتبه بتورطها في تمويل إيران، وتقييد الوصول إلى الدولار.
الإدارة الأمريكية تستخدم نفوذها لدعم شخصيات معتدلة مثل السوداني والحلبوسي، وتحرص على إبقاء قوات استشارية محدودة في كردستان حتى 2026 لضمان النفوذ الأمني، ومع أن البرلمان العراقي يتمتع باستقلال نسبي، فإن الضغوط المالية تدفعه إلى موازنة علاقاته بين واشنطن وطهران.
هل تعتقدين أن واشنطن ستتعامل ببراغماتية مع القوى الفائزة مهما كانت هويتها، أم أن هناك خطوطاً حمراء محددة تجاه بعض الفصائل؟
بالتأكيد، واشنطن تتبع نهجًا براغماتيًا مع القوى الفائزة، لكنها تضع خطوطًا حمراء واضحة أمام الفصائل المدعومة مباشرة من إيران، فالإدارة الأمريكية تشجع على بقاء حكومة السوداني أو من يشبهه في التوجه المتوازن، لكنها في الوقت نفسه مستعدة لاستخدام العقوبات ضد أي فصيل يكرّس دولة داخل الدولة أو يهدد المصالح الأميركية.
كيف يمكن قراءة الموقف الإيراني من نتائج الانتخابات؟ وهل سنشهد تنافساً أميركياً – إيرانياً جديداً داخل بغداد؟
إيران تنظر إلى النتائج بإيجابية لأنها تعزز نفوذ الإطار التنسيقي بعد غياب التيار الصدري، ومع عودة خطاب "الضغط الأقصى" في حملة ترامب الثانية، من المرجح أن يتصاعد التنافس الإيراني – الأمريكي داخل بغداد، ليس فقط سياسياً بل اقتصاديًا وأمنيًا أيضًا.
هل تعتقدون أن الحكومة المقبلة ستكون قادرة على إعادة رسم سياسة خارجية متوازنة بين واشنطن وطهران؟
إلى حدٍّ ما، نعم. رئيس الوزراء الحالي محمد شياع السوداني يسعى إلى التوازن ذاته الذي حافظ عليه طوال ولايته الأولى، عبر التعاون الأمني مع الولايات المتحدة والعلاقات الاقتصادية مع إيران، خاصة في ملفي الغاز والكهرباء. لكن الحرب الإيرانية–الإسرائيلية في يونيو 2025 جعلت هذا التوازن أكثر هشاشة.
هل الانتخابات الحالية كانت محطة لتجديد الثقة بالنظام السياسي أم مجرد “استراحة مؤقتة” قبل أزمات أعمق؟
أعتقد أنها أقرب إلى "استراحة مؤقتة"، الإقبال المنخفض يعكس أزمة ثقة متفاقمة، والانتخابات لم تُحدث تغييرًا حقيقيًا في القانون الانتخابي أو في مواجهة الفساد، لقد أعادت فقط توزيع السلطة بين النخب التقليدية.
إلى أي مدى يمكن أن تؤثر نتائج هذه الانتخابات في ملفات إقليمية حساسة مثل الوجود العسكري الأمريكي أو العلاقة مع التحالف الدولي؟
نتائج الانتخابات ستؤثر بالتأكيد، ففوز الإطار التنسيقي يعني تسريع مسار الانسحاب الأمريكي الكامل حتى 2026، مع بقاء المستشارين في كردستان. وستحاول الحكومة الجديدة موازنة علاقتها مع التحالف الدولي لتفادي فراغ أمني جديد.
هل يمكن القول إن المجتمع الدولي بات ينظر إلى العراق كدولة مستقرة ديمقراطياً؟
ليس بعد؛ العراق ما زال في "دائرة الاختبار الدائم"، الانتخابات تُجرى بانتظام، لكن الديمقراطية ما زالت ضعيفة ومهددة بالفساد وبتغول الميليشيات، ما يجعل النظرة الدولية إليه حذرة رغم الاستقرار النسبي.
ما السيناريوهات المحتملة لتشكيل الحكومة في ظل هذا التوازن الدقيق بين الإطار التنسيقي وائتلاف الإعمار والتنمية؟
هناك 3 سيناريوهات رئيسة: الأول، توافق شامل بين الإطار، وتقدم، والحزب الديمقراطي لتشكيل حكومة برئاسة السوداني. الثاني، صراع داخلي يؤخر تشكيل الحكومة كما حدث في 2021. أما الثالث، أغلبية جزئية تقودها قوى معتدلة إذا حصل ائتلاف الإعمار على أكثر من 100 مقعد، بالتحالف مع قوى سنية.
هل سيحاول الغرب استخدام الورقة الاقتصادية للضغط على التحالفات الجديدة داخل بغداد؟
نعم، سيستخدم الغرب الدولار والعقوبات كأدوات ضغط. تم بالفعل حظر 5 بنوك عراقية عن نظام التحويلات بالدولار، في محاولة للحد من نفوذ إيران وتوجيه التحالفات نحو الاعتدال.
في ضوء المتغيرات الإقليمية بعد الحرب الإيرانية – الإسرائيلية، كيف يمكن أن تتأثر أولويات الحكومة العراقية المقبلة؟
أولويات الحكومة المقبلة ستتمحور حول الأمن والاقتصاد والدبلوماسية. بعد حرب يونيو 2025، أصبح التركيز على احتواء الميليشيات، وتوسيع بدائل الغاز الإيراني، وتعزيز الدور العراقي كوسيط إقليمي.