كشفت مصادر لبنانية مطلعة لـ"إرم نيوز" أن قيادة حزب الله أبلغت طهران، خلال جولات تفاوض غير معلنة أُجريت في الأسابيع الأخيرة، بأن مستوى التمويل السنوي القائم لم يعد يلبي متطلبات المرحلة التالية للحرب، مطالبة برفع الدعم إلى نحو ملياري دولار سنويا، في حين وافقت إيران على سقف يقارب مليار دولار فقط، يُحوّل على دفعات منتظمة.
وبحسب المصادر، فإن هذه المفاوضات لم تكن تقنية أو مالية بحتة، بل عكست اختلافا عميقا في تقدير حجم الخسائر، وأولويات ما بعد الحرب، بين الحزب الذي يسعى إلى إعادة تثبيت موقعه الداخلي والعسكري بسرعة، وطهران؛ الداعم الرئيسي للحزب التي تواجه ضغوطا مالية وأمنية متصاعدة، وتعيد ترتيب التزاماتها الإقليمية بحذر.
التزامات مضاعفة
في هذا السياق، يؤكد الخبير والمحلل السياسي اللبناني علي حمادة، في قراءة معمقة للمشهد، أن طلب حزب الله رفع التمويل إلى ملياري دولار لم يكن "بالون اختبار"، بل مطلبا صريحا طُرح على الطاولة خلال النقاشات مع الإيرانيين.
ويقدّر حمادة، استنادا إلى معطيات سياسية وأمنية لبنانية، أن قيادة الحزب انطلقت في هذا الطلب من قناعة بأن ما بعد الحرب ليس امتدادا لما قبلها، لا على مستوى الكلفة ولا على مستوى الوظيفة. فالحزب، وفق هذا التقدير، بات أمام التزامات مضاعفة؛ مع وجود بيئة اجتماعية متضررة، وبنية عسكرية تحتاج إلى ترميم طويل الأمد، وهو ما لا يمكن تغطيته بسقف تمويل تقليدي.
كلفة ما بعد الحرب.. فاتورة مفتوحة
تربط مصادر قريبة من الحزب هذا الارتفاع الكبير في سقف المطالب بتغير طبيعة الإنفاق بعد الحرب الأخيرة مع إسرائيل. فالمسألة، وفق توصيفها، لم تعد مقتصرة على رواتب ومخصصات تشغيلية، بل باتت فاتورة إعادة بناء شاملة، تبدأ من التعويضات والإسكان، ولا تنتهي عند إعادة ترميم البنية العسكرية التي تضررت بشكل واسع.
وتشير المعطيات إلى أن آلاف العائلات في الجنوب والضاحية الجنوبية لبيروت والبقاع باتت تعتمد بشكل شبه كامل على مساعدات مباشرة من الحزب، سواء عبر بدل إيجار، أو دفعات نقدية لإعادة الترميم، أو دعم معيشي شهري. هذا المسار، بحسب تقديرات مالية غير رسمية، استنزف مئات ملايين الدولارات خلال أشهر قليلة، وخلق ضغطاً متواصلا على خزائن الحزب.
ويرى علي حمادة أن هذه الكلفة الاجتماعية لم تكن تفصيلا هامشيا في حسابات الحزب، بل تحولت إلى أولوية سياسية بامتياز، لأن أي تراجع في القدرة على احتواء البيئة الحاضنة قد ينعكس مباشرة على مكانته الداخلية، في لحظة سياسية لبنانية شديدة الهشاشة.
الكلفة الصامتة.. إعادة بناء بلا ضجيج
إلى جانب الكلفة الاجتماعية الظاهرة، تتحدث المصادر عن "كلفة صامتة" لا تقل ثقلا، تتمثل في إعادة بناء المخازن والبنية اللوجستية التي تضررت خلال الحرب. هذا النوع من الإنفاق لا يمكن تأجيله طويلا، لكنه في الوقت نفسه أكثر تعقيدا من حيث التمويل والتنفيذ، في ظل تشديد الرقابة الدولية على خطوط الإمداد، وتضييق الخناق على الشبكات المرتبطة بالحزب.
وتقدر أوساط متابعة أن الحزب يدرك صعوبة العودة السريعة إلى ما قبل الحرب على المستوى العسكري، لذلك يعتمد مقاربة تدريجية، تتكيف مع مستوى الضغط الدولي، ومع التوازنات الجديدة التي فرضتها المعركة على الحدود الجنوبية.
البيئة أولا.. والسلاح لاحقا
وفق مصادر مطلعة على النقاشات الداخلية، وضعت قيادة حزب الله سلما واضحا للأولويات في استخدام أي زيادة محتملة في التمويل. في المقدمة، يأتي تثبيت الاستقرار الاجتماعي داخل البيئة الحاضنة، باعتباره خط الدفاع الأول عن تماسك الحزب سياسيا وشعبيا.
بعد ذلك، يأتي الحفاظ على الشبكات المالية والخدماتية التي تشكل العمود الفقري لما بات يُعرف بـ"اقتصاد الظل"، ويشمل مؤسسات اجتماعية، وقنوات صرف، وشبكات نقدية، تُستخدم لضمان تدفق الأموال بعيدا عن النظام المصرفي الرسمي.
أما الملف العسكري، فيُدار وفق مقاربة أكثر حذرا، تقوم على إعادة بناء انتقائية ومدروسة، لا على استعادة شاملة وسريعة للقدرات السابقة.
مقاربة إيرانية مختلفة
في المقابل، تشير المصادر إلى أن طهران تعاملت مع طلب الملياري دولار ببرودة محسوبة. فإيران، التي تواجه ضغوطا اقتصادية داخلية متزايدة، وتشددا أمريكيا متصاعدا في ملاحقة شبكات التمويل، لا ترى في ضخ هذا الرقم الكبير خيارا آمنا أو مستداما.
وفي قراءة قريبة من هذا التقدير، يذهب العميد المتقاعد والخبير العسكري اللبناني إلياس حنا إلى أن المقاربة الإيرانية الحالية تميل إلى ضمان "الاستمرارية" لا "القفزة"، أي الحفاظ على حزب الله كعنصر ردع طويل الأمد، من دون دفعه إلى إعادة تسلح واسعة قد تستدرج مواجهة جديدة في توقيت إقليمي حساس.
وبحسب هذه المقاربة، فإن مليار دولار سنويا، رغم محدوديته قياسا بحجم المطالب، يبقى رقما يضمن بقاء الشبكات الأساسية للحزب، من دون تعريض خطوط التمويل لمخاطر مفرطة.
كيف يصل التمويل رغم الرقابة؟
تؤكد تقارير أمنية غربية أن إيران ما زالت قادرة على إيصال التمويل إلى الحزب، رغم تشديد الرقابة على المنافذ الجوية والبحرية والبرية. ويتم ذلك عبر مزيج من التحويلات النقدية المجزأة، وشبكات صرافة وحوالات غير رسمية، إضافة إلى مسارات إقليمية ملتوية تقلل من مخاطر الرصد والمصادرة.
لكن هذه الآليات، على فعاليتها، تفرض سقفا عمليا لحجم الأموال التي يمكن تمريرها بأمان. فكلما ارتفع الرقم، ازدادت المخاطر السياسية والأمنية، وارتفعت احتمالات الاستهداف بالعقوبات أو الاعتراض المباشر.
بين المليار والمليارين.. إدارة مرحلة دقيقة
يخلص علي حمادة إلى أن التباين بين الحزب وطهران لا يعكس تصدعا في العلاقة، بقدر ما يعكس اختلافا في إدارة المرحلة. فحزب الله، من وجهة نظره، يسعى إلى إعادة تثبيت موقعه بأسرع وقت ممكن، فيما تحاول إيران ضبط الإيقاع، وتوزيع مواردها على أكثر من ساحة، من دون التفريط بأوراقها الأساسية.
وبين هذين التقديرين، تستمر المفاوضات بهدوء، فيما يعمل الحزب على إدارة مرحلة دقيقة، تتداخل فيها إعادة ترميم بيئته وقدراته مع ضغوط سياسية وأمنية متصاعدة داخل لبنان وخارجه، في انتظار ما ستفرضه الأشهر المقبلة من معادلات جديدة.