تصطدم طموحات الإدارة الأمريكية لمستقبل غزة يومًا بعد يوم بواقع ميداني بالغ التعقيد يزداد ترسخًا، في ظل فتور واضح من جانب حركة حماس، ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إزاء الانتقال إلى المرحلة الثانية من اتفاق وقف إطلاق النار.
وقالت صحيفة "يديعوت أحرونوت"، إن هذا الانتقال يستلزم تقديم تنازلات من الطرفين، إذ يفترض أن تقدم إسرائيل حزمة تنازلات واسعة لنحو مليوني فلسطيني في قطاع غزة، تشمل السماح بإدخال مواد ذات استخدام مزدوج، مثل الخرسانة والإسمنت والحديد، بما يتيح الشروع فعليًا في إعادة إعمار القطاع، إلى جانب فتح معبر رفح في الاتجاهين، ومواصلة انسحاب الجيش الإسرائيلي إلى محيط السياج الحدودي.
في المقابل، سيُطلب من حركة حماس التخلي عن الحكم في قطاع غزة، فضلًا عن التخلي عن ترسانتها العسكرية، والأهم من ذلك، التخلي عن شبكة واسعة من الأنفاق والقواعد تحت الأرض تمتد لعشرات الكيلومترات، وفق الصحيفة.
وعلى الأرض، ينقل مقاتلو الاحتياط في الجيش الإسرائيلي المنتشرون على طول الخط الأصفر صورة توصف بالسريالية؛ إذ يؤكدون أنهم يرصدون يوميًا مسلحين تابعين لحركة حماس في عمق المنطقة، من بين أكثر من عشرة آلاف عنصرًا ما زالوا ضمن صفوف الحركة، لكنهم يتلقون أوامر تمنعهم من فتح النار عليهم.
ووصف أحد الضباط العاملين حاليًا في قطاع غزة الوضع قائلًا: "لا نسمع في الأخبار إلا عن عدد قليل ممن يعبرون الخط الأصفر، وحتى هؤلاء يواجهون قيودًا عديدة، رغم محاولات تصوير الأمر على أنه إطلاق نار حر على المشتبه بهم".
وأضاف الضابط: "يُمنع على القوات البرية، سواء المشاة أو المركبات المدرعة، استخدام النار إلا في حال وجود تهديد مباشر، وبعد إطلاق طلقات تحذيرية واستمرار التوغل. أما إذا اقتضت الحاجة استخدام نيران قاتلة ضد من يعبرون الخط، فتتولى القوات الجوية تنفيذ ذلك لضمان أعلى درجات الدقة".
ونقلت الصحيفة عن مصادر عسكرية، قولها إن الصمت النسبي لحماس إزاء اغتيال رائد سعد، الرجل الثاني في الحركة، قبل ثمانية أيام، لا يُفسَّر بوصفه مؤشرًا إيجابيًا.
وأضافت المصادر: "لن يتخلى أحد عن موقعه بدافع الانتقام، بل سيترقبون بصبر ظهور ثغرة عملياتية موضعية من جانبنا، تتيح لهم استهداف منطقة قريبة من قوات الجيش الإسرائيلي أو نصب كمين لها".
وتابعت: "كما تدرك حماس أننا مستعدون للرد بقوة على أي تحرك من جانبها، ولذلك يخيّم التريث على الموقف في الوقت الراهن".
ووفق الصحيفة، لا تظهر حركة حماس أي إشارات تدل على استعدادها لنزع سلاحها، حتى بصورة رمزية أمام وسائل الإعلام، كما أنها تؤجّل استئناف عمليات البحث عن آخر المختطفين، ران غويلي، والتي كان من المفترض تنفيذها خلال هذه الأيام مع تحسّن الظروف الجوية.
في المقابل، أسهم عودة غالبية الرهائن، لا سيما الأحياء منهم، في تخفيف الضغوط بشكل ملحوظ على الطرفين لدفعهما نحو تسويات وسطية، والمضي قدمًا باتجاه تصور لمستقبل غزة خالٍ من حكم حماس، وفق تقدير الصحيفة.
ولفتت إلى أن إسرائيل تُقر بأن كبار قادة حماس يتصرفون وكأنهم مطلوبون للعدالة، إذ يديرون شؤون الحركة من داخل شبكة الأنفاق، في حين تنشط الرتب الأدنى فوق الأرض، لكن تحت غطاء مدني وبمهام داخلية في الغالب.
وفي هذا السياق، يُسجَّل أسبوعيًا ازدياد عدد نقاط التفتيش التابعة لحماس في مختلف المناطق الواسعة الخاضعة لسيطرتها، من جباليا شمالًا إلى أجزاء من رفح جنوبًا.
كما تكثف شرطة حماس دورياتها اليومية لإبراز حضور السلطة، وتعود تدريجيًا المزيد من الدوائر البلدية في قطاع غزة إلى العمل، رغم الدمار الواسع الذي طال البنية التحتية جراء الحرب.
وقالت مصادر أمنية للصحيفة، إن "هذا هو الوقت الملائم لحركة حماس، التي لا تُظهر أي استعجال لتحقيق تقدم ملموس. فهي تستثمر في السكان، وتوظف مديري أقسام البلديات لجمع القمامة والأنقاض، وتقديم الخدمات، حتى البسيطة منها، للمواطنين".
وأضافت أنه "من جانبهم، ينشغل السكان بمصاعب حياتهم اليومية ومواجهة شتاء قاسٍ. ومن الصعب على حماس إعادة بناء قوتها العسكرية بالكامل، ولن تصل أبدًا إلى مستوى القوة التي كانت عليها في 7 أكتوبر، لكنها تواصل محاولات تهريب الأسلحة".
وأكدت المصادر الأمنية أن "جميع المسؤولين المدنيين، والمكاتب الحكومية، والمعلمين، والأطباء، وموظفي البلديات في غزة، هم من أعضاء حماس، ولا يوجد واقع بديل معروف على الأرض".
ووفقًا للمصادر الأمنية، "قد تلجأ حماس إلى حل وسط يتمثل في تشكيل لجنة حكم 'تكنوقراطية' تتولى تدريجيًا إدارة الشؤون المدنية في غزة تحت إشراف مجلس السلام الدولي نفسه، ومع ذلك، من المتوقع أن يكون أعضاء اللجنة من مسؤولي حماس والسلطة الفلسطينية، أو من المنتسبين لكليهما، ما يجعل طريقة تسويق الفكرة غير مهمة، ولن يُزال أحد من منصبه إذا كان تشكيل لجان الحكم ومجلس السلام مجرد واجهة لإرضاء الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، بينما سيستمر مسؤولو حماس في ممارسة السيطرة الفعلية على القطاع".
وأكدت الصحيفة أن الجيش الإسرائيلي يدرك أن السيطرة المطلقة التي تمارسها حماس على سكان قطاع غزة خلال أكثر من عقد ونصف بدأت تؤتي نتائجها: فالسكان لا يثورون ضدها رغم تدمير منازلهم جراء الحرب، بل إن نحو 300 ألف خيمة قماشية أرسلتها إسرائيل للنازحين استعدادًا للشتاء استولى عليها عناصر حماس، وقاموا بتوزيعها على المدنيين.
كما شرعت الحركة في إنشاء رياض أطفال ومدارس غير مرخصة، فضلًا عن السماح بإقامة مناسبات عائلية، مثل حفلات الزفاف، تحت مظلة وقف إطلاق النار مع إسرائيل.
وقالت مصادر بالمؤسسة الدفاعية: "لا يوجد أي نقص في المياه أو الغذاء في غزة، وهناك كميات كافية من الوقود والكهرباء بعد إصلاح الخطوط خلال الأسابيع الأخيرة".
وأضافت: "من الواضح الآن أن أي قوة استقرار أجنبية لن تعمل إلا من الجانب الإسرائيلي للخط الأصفر، ولن تخوض مواجهة مباشرة مع حماس".