بعد "هدنة قصيرة الأجل" بين قصري الإليزيه والمرادية استمرت أقل من أسبوعين، اندلعت أزمة جديدة بين فرنسا والجزائر، أكثر عنفاً من سابقتها وصلت إلى الطرد المتبادل للموظفين القنصليين، واستدعاء السفير الفرنسي للتشاور، وإلغاء اجتماعات اقتصادية وزيارات، ما أثار تساؤلات بشأن مسار تسوية النزاع أو تبعات إجراءات انتقامية أكثر حدة.
ويعدّ استدعاء سفير الدولة للتشاور أحد الإجراءات الرمزية التي قد تؤدي إلى انهيار العلاقات الثنائية، ويعتبر من التدابير المتاحة للدول للتعبير عن عدم ثقتها أو عدائها، وهو الخيار الذي ذهب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى تفعيله، حين قرر طرد 12 موظفا قنصليا جزائريا واستدعاء السفير الفرنسي في الجزائر للتشاور بعد أسبوعين فقط من مكالمة هاتفية مع نظيره الجزائري عبد المجيد تبون، كان من المقرر أن تعيد إطلاق الحوار بين البلدين بعد 8 أشهر من الأزمة.
تأتي هذه الخطوة رداً من باريس على طرد 12 مسؤولا فرنسيا من وزارة الداخلية، الذي أعلنت عنه الجزائر الأحد كإجراء جاء ردا على اعتقال موظف قنصلي جزائري في فرنسا ثم احتجازه.
وإذا كان ماكرون قد اختار هذا الخيار باستدعاء السفير الفرنسي في الجزائر، فإن السلطات الجزائرية كانت قد فعلت الشيء نفسه بالفعل، واستدعت سفيرها في باريس في 30 يوليو 2024، كنوع من الاحتجاج على الدعم الفرنسي لخطة الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية للصحراء الغربية، ومنذ ذلك الحين، لم يعد السفير إلى باريس أبداً.
وإذا تدهورت العلاقات الدبلوماسية بشكل أكبر، يمكن للدول أن تتحرك إلى مستوى أعلى، على غرار طرد الدبلوماسيين أو أعضاء السفارة والقنصليات المتواجدين على أراضيها. ويتم إعلان الأفراد المعنيين "أشخاصا غير مرغوب فيهم" وعادة ما تكون لديهم مدة تتراوح بين 24 إلى 72 ساعة لمغادرة البلاد.
ويمكن أن يؤدي التصعيد الدبلوماسي إلى تعليق الاتفاقيات الثنائية، وهو التهديد الذي لوحت به فرنسا، وأثاره رئيس الحكومة فرانسوا بايرو بإمكانية مراجعة اتفاقيات عام 1968، فيما اقترح وزير الداخلية برونو ريتيلو أيضا تعليق اتفاقية 2007 بشأن الإعفاء المتبادل من التأشيرات لحاملي جوازات السفر الدبلوماسية.
ويشكك أستاذ التاريخ المعاصر في جامعة الجزائر عيسى المفلاح، في حظوظ انفراج الأزمة وخفض التصعيد الدبلوماسي هذه المرة بمكالمة هاتفية بين رئيسي البلدين كما في السابق، بسبب تشعّب الملفات المعقدة على الضفتين، من قضايا الهجرة إلى المؤثرين الموقوفين والذاكرة، وأخيرا قضية سجن موظفين بالسفارة في فرنسا.
وقال المفلاح في تصريح لـ"إرم نيوز"، إن "الدوائر السياسية في الجزائر، الآن في مرحلة اختبار حقيقي لعلاقات الدولة مع باريس بعد حادثة استدعاء الموظفين، إن كانت ستتوقف عند هذا الحد أو تتهاوى إلى المرحلة التالية من مراحل التصعيد كإغلاق قنصلياتها وسفاراتها، وهي خطوة دبلوماسية تأتي بعد سحب السفير، وأكثر جدية من مجرد استدعائه مؤقتا".
وهذا ما دعا إليه الدبلوماسي والسفير الفرنسي السابق في الجزائر كزافييه درينكورت، الذي يقترح "إغلاق قنصلية أو أكثر" للجزائر في فرنسا، ردا على قرار الجزائر طرد 12 موظفا من السفارة الفرنسية وفق ما كتب في مقال نُشر مساء الاثنين في صحيفة "لوفيغارو".
وبالنسبة له، فإن الجوانب الثلاثة التي ذكرها رئيس الدبلوماسية الفرنسية، جان نويل بارو في إطار العلاقة الجديدة بين باريس والجزائر، وهي "التعاون الأمني في الساحل، والتعاون القضائي، والتعاون في مجال الهجرة"، لن تصمد.
وأضاف درينكور أن "هذه المحاور الثلاثة الكبرى التي أعلن عنها بارو تبدو الآن وكأنها تتلاشى مع الحلقة الأخيرة من الأزمة الفرنسية الجزائرية".
وحاولت الجزائر في بيانها الصادر بتاريخ الـ14 أبريل الماضي حصر الأزمة في وزير الداخلية الفرنسي بتحميله "المسؤولية الكاملة" عن التدهور الحاد في العلاقات بين البلدين، وذلك على خلفية توقيف موظفها القنصلي، الذي يُشتبه في ضلوعه بعملية اختطاف أحد المعارضين الجزائريين المقيمين في باريس.
لكن الحكومة الفرنسية، نفت اليوم الأربعاء، وجود ما سُمي بـ"قضية ريتيلو"، وأكدت المتحدثة باسم الحكومة الفرنسية، صوفي بريما، في مؤتمر صحفي أعقب اجتماع مجلس الوزراء، أن وزير الداخلية برونو ريتيلو "لا علاقة له" بالملف القضائي الذي تسبب في اندلاع أزمة دبلوماسية جديدة بين الجزائر وفرنسا.
وأضافت بريما: "لقد فُوجئنا ببيان الجزائر"، ووصفت ما حدث بأنه "تصعيد مؤسف"، خاصة وأن "العلاقات الثنائية كانت قد بدأت تأخذ مسارًا أكثر هدوءًا وبنّاءً"، وفقها.
وبحسب المسؤولة الحكومية الفرنسية فإنّ "قرار التوقيف (توقيف أحد دبلوماسيي الجزائر) صدر عن النيابة الوطنية لمكافحة الإرهاب، وكان مستقلاً تمامًا عن الحكومة".
في هذه الأثناء، يشعر ريتيلو بالبهجة ويعلن النصر بعد قرار قصر الإليزيه، وقال معبرا عن سعادته لقناة "سي نيوز" الأربعاء: "لقد دافعت عن هذا المشروع في البداية وحدي في الصحراء، ثم تبنته الحكومة".
ويبدو وزير الداخلية أكثر التزاما من أي وقت مضى بـ"توازن القوى" الذي يدعو إليه منذ عدة أشهر. وهدد قائلا "الجزائر تقف الآن عند مفترق طرق، أمامها خياران: إما التصعيد أو الحوار".
ورغم التصعيد الدبلوماسي، شدّد، وزير الخارجية الفرنسي، جان نويل بارو، صباح الأربعاء، على أنّ "الحوار هو السبيل الوحيد لحل التوتر بشكل مستدام". معتبرًا أن من يدعو إلى غير الحوار "غير مسؤول". ليؤكد: "يجب إعطاء فرصة للحوار".