في قلب ساحة مدرسة تحولت إلى مأوى يضج بآلاف النازحين في قطاع غزة، حيث امتزجت أصوات الحياة النازحة بهمس الحرب الذي لا يتوقف، يقف الطفل راتب، ابن الأعوام التسعة، شاهداً صغيراً على كارثة تفوق سنوات عمره.
الطفل "راتب" لا يحمل حقيبة مدرسية ولا يلهو بكرة، بل يحمل عبئاً ثقيلاً بـ"حجم جبل"، يتمثل بمحاولة استعادة القدرة على المشي، ليزور أفراد أسرته القابعين تحت التراب، بعد أن خطفت الحرب أرواحهم.
وفقد "راتب" ساقه عندما استهدفت قذيفة إسرائيلية منزله في خان يونس، ولم تسلب تلك اللحظة من "راتب" طرفاً فحسب، بل خطفت منه سنده ودفء عائلته؛ والدته ووالده وأخاه الأكبر، تاركة إياه حاملًا ذكرى دمار عائلي كامل.
ونزح الطفل المكلوم مع مَنْ تبقى من عائلته مرتين، ليصبح مصيرهم الأخير محصوراً بين جدران مدرسة تابعة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "الأونروا"، حيث بات النزوح هو الواقع الوحيد الثابت وسط الجحيم المتنقل.
"كل ما أتمناه أن أركض مثلهم، أن ألعب الكرة مع أصحابي دون أن أسقط. أريد أن أعود راتب الذي كان قبل أن تهدم القذيفة بيتنا وتأخذ أهلي"، هكذا يهمس راتب باكياً، وعيناه تلاحقان أقرانه الذين يتراكضون في ملعب مركز اللجوء.
ولم يجد راتب طرفاً صناعياً متطوراً يعيد له توازنه، بل وجد رفيقاً صغيراً في محنته، ابن عمه أحمد، حيثُ تعاون الطفلان بأقصى ما يملكان، ليصنعا له أدوات بدائية وبسيطة من البلاستيك محاولين بها إسناد طرفه المبتور، هذا الطرف البلاستيكي الصغير، المهترئ، هو أقصى ما يمكن أن يقدمه الواقع القاسي لراتب اليوم.
مأساة راتب ليست فريدة، بل هي جزء من مشهد أوسع وأعمق في القطاع الفلسطيني المُدمر، إنه يمثل جيلاً كاملاً من الأطفال الذين بترت أطرافهم وأحلامهم معاً.
وتروي الأرقام حكاية أكثر قسوة؛ منذ بداية الحرب، التي اندلعت في الـ7 من شهر تشرين الأول/أكتوبر من عام 2023، تم تسجيل نحو 4,500 حالة بتر، يمثل الأطفال منها نسبة مخيفة تصل إلى 15%.
وتتمثل الأسباب، التي باتت مألوفة ومؤلمة، بالقصف العشوائي على المناطق المدنية، ومخلفات الحرب والألغام التي تحصد الأبرياء بعد توقف القصف، والأكثر مرارة هو نقص المستلزمات الطبية الحاد الذي يجبر الأطباء على اللجوء إلى البتر كخيار أخير لإنقاذ حياة المصابين.
وفي كل يوم يمضي، يُقدر أن نحو 10 أطفال يفقدون أحد أطرافهم بسبب هذه الحرب الضارية.
والمركز الوحيد الذي يحمل على عاتقه مهمة تركيب الأطراف الصناعية والأجهزة التعويضية هو مركز بلدية غزة، الذي يستقبل نحو 2000 شخص سنوياً، مقدماً العلاج الطبيعي والدعم النفسي، ولكنه يواجه سيلاً جارفاً من الاحتياجات بإمكانات محدودة جداً.
ويتراوح سعر الطرف الصناعي العادي بين 2,000 و4,000 دولار، والطرف الإلكتروني الذكي، الذي قد يمنح راتب أملاً أكبر بالركض، يصل سعره إلى 15,000 دولار، هذه الأرقام الضخمة تفوق قدرة معظم العائلات التي فقدت كل شيء تحت الركام.
ورغم كلّ هذا، مازال راتب يحاول، يقف على طرفه البلاستيكي، يبتسم للحظة عابرة تنسيه الألم، لكن سرعان ما تفيض عيناه بالدموع وهو يستعيد في صمته صور من أحب، ويُعدّ راتب الوجه الحقيقي لغزة اليوم، طفل يتعلم، مع جيل كامل، كيف يعيش وسط الخسارة المطلقة والمعاناة التي لا تنتهي.