تشير معطيات متقاطعة من مصادر سياسية وأمنية لبنانية إلى أن حزب الله يعيش مرحلة ميدانية شديدة الحساسية تتّسم باستنزاف داخلي واضح وتراجع نفوذ في البيئات التي لطالما شكّلت حاضنته الأساسية.
خلال الأسابيع الأخيرة، رُصدت تحركات أمنية غير معلنة في مناطق البقاع وجنوب بيروت، شملت إعادة انتشار عناصر ونقل معدات من مواقع مفتوحة إلى أماكن مغلقة داخل مناطق سكنية.
هذه التحركات، وفق ما أفادت مصادر مطّلعة "إرم نيوز"، لا تندرج ضمن استعدادات هجومية وإنما تعبّر عن موقع دفاعي اضطراري يفرضه ارتفاع حدة التوترات في المنطقة ضد إيران بشكل أساسي، والضغوط الداخلية اللبنانية من جهة أخرى.
الحزب الذي اعتاد العمل وفق منظومة انضباط صارمة، يبدو اليوم منشغلاً بإدارة تراجع السيطرة على قواعده الميدانية، فالموارد المالية التي كانت تضمن ولاء عناصره تراجعت بفعل تقلّص التمويل الإيراني، فيما تتحدث مصادر محلية عن تزايد حالات التذمر داخل صفوف المقاتلين بسبب الإنهاك الاقتصادي وغياب الحوافز السابقة.
وتسعى القيادة المركزية للحزب في الضاحية الجنوبية لاحتواء هذه الموجة من خلال تشديد الرقابة وإعادة ترتيب البنية التنظيمية في القرى الجنوبية والبقاعية، لكن النتائج حتى الآن محدودة؛ ما يعزز شعور القلق داخل الجهاز الأمني للحزب.
على المستوى السياسي، يواجه حزب الله تراجعاً ملموساً في قدرته على فرض أجندته داخل الدولة اللبنانية، فالأزمة الاقتصادية العميقة قلّصت هامش المناورة لدى حلفائه، كما أن جزءاً من بيئته الشيعية بات يطالب بفصل الملف المعيشي عن خطاب "تبرير السلاح غير الشرعي".
هذا التحول الداخلي دفع الحزب إلى خفض نبرة التحدي الإقليمي، في محاولة لتجنّب مواجهة لا يستطيع تحمّل كلفتها العسكرية أو الشعبية.
مصادر سياسية متابعة للملف الأمني جنوباً، قالت لـ"إرم نيوز" إن حزب الله نفّذ خلال الأسابيع الماضية تحركات لوجستية موضعية شملت نقل بعض المعدّات إلى مواقع مغلقة، وتقليص عدد النقاط المكشوفة، خصوصاً في البقاع الغربي ومحيط صور.
الهدف من هذه التحركات، بحسب المصادر، يأتي في سياق ما سمّته "إعادة ترتيب داخلي لتقليل التكاليف وضبط التسرّب التنظيمي".
كما تؤكد المصادر أن هناك تراجعاً ملحوظاً في حجم الموارد المالية التي تُضخ داخل الأجهزة الميدانية للحزب منذ مطلع هذا العام؛ ما أدى إلى شكاوى متزايدة من العناصر الميدانية حول تأخير في الرواتب والمخصصات.
ورغم أن هذا التذمر لا يزال يدار داخل أطر مغلقة، إلا أن تكراره في أكثر من منطقة دفع قيادة الحزب إلى تكثيف الاجتماعات التنظيمية المغلقة بهدف إعادة ضبط الخطاب الداخلي.
كذلك فإن الحزب خفّض بشكل واضح وتدريجي منذ بداية الصيف نسبة الرسائل التعبوية العلنية المرتبطة بجبهة الجنوب، ووجّه المنصات الإعلامية التابعة له نحو مواضيع خدمية واقتصادية.
وتلفت المصادر إلى أن حزب الله بات أكثر حذراً في رسم قواعد الاشتباك جنوباً، معتبرة أن ذلك نتيجة مباشرة لتبدّل الحسابات الإيرانية الإقليمية، وأن القرار الفعلي بخوض مواجهة لم يعد لبنانياً صرفاً كما كان بعد 2006، بل يخضع لمعادلات خارجية أكثر تشابكاً.
وبيّنت المصادر أن عدداً من البلديات والمخاتير في القرى الحدودية باتوا يعبّرون عن امتعاضهم من استئثار الحزب بالقرار الأمني والعسكري، خصوصاً في ظل تدهور الأوضاع الاقتصادية، حيث يشير ذلك إلى تراجع الثقة الصامتة التي لطالما اعتمد عليها التنظيم في ضبط مناطقه.
وتفيد معلومات المصادر بأن حزب الله بات يتعامل بجدية متزايدة مع مخاوف من تسرب معلومات حساسة من داخل مناطقه الأساسية، وقد بدأ فعلاً بتنفيذ إجراءات أمنية تتضمن عزل بعض النقاط التنظيمية، والتضييق على استخدام الأجهزة الذكية داخل المراكز المغلقة.
هذه المؤشرات ترتبط بـ"حساسية داخلية غير معلنة" تكشف قلقاً متصاعداً من فقدان السيطرة الكاملة على البيئة المحلية.
وتقول المصادر إن حزب الله يواجه صعوبة واضحة في إعادة لملمة جبهته السياسية الداخلية، ويُلاحظ أن الحزب لم يعد قادراً على فرض تسويات كما كان يفعل سابقاً، بل ينزلق إلى موقع ردّ الفعل ضمن السلطة لا موقع الإدارة؛ ما يوسّع الفجوة بينه وبين حلفائه.
ومع ازدياد حدة التوتر التي تواجهها طهران، فقد وجد حزب الله نفسه في وضع المراقب الحذر أكثر منه شريكاً في القرار، فإيران المشغولة بجبهات متعددة لم تعد تمنحه الأولوية.
وفي هذا السياق، تكشف مصادر "إرم نيوز" أن الحزب قلّص عملياته التدريبية الميدانية وركّز على تثبيت خطوطه الدفاعية في محيط الجنوب، تحسباً لأي هجوم محدود أو اختراق أمني.
الخطاب السياسي الذي كان يلهب جمهور حزب الله فقد بريقه، فالمزاج الشعبي داخل مناطق النفوذ تغيّر، وتراجعت الحماسة تجاه الشعارات التقليدية.
في المقابل، تزايدت التساؤلات داخل بيئة الحزب عن جدوى استمرار التحشيد العسكري في ظل الانهيار المعيشي؛ ما جعل الحزب أمام معضلة حقيقية حول كيفية الحفاظ على صورته، فيما قواعده الاجتماعية تطالب بأمن اقتصادي.
وبهذا المعنى، يبدو حزب الله اليوم أمام مرحلة انكماش غير معلنة، يحاول خلالها إعادة ترتيب صفوفه في الداخل اللبناني وتجنّب التورط في أي تصعيد خارجي.
هذا القلق الميداني الصامت ناتج عن تعب داخلي متراكم وتراجع نفوذ تدريجي، يحاول الحزب إخفاءه خلف لغة الانضباط والتهدئة، لكنّ المشهد على الأرض يكشف واقعاً مغايراً يوضح بشكل جلي تنظيما يتكيّف مع مرحلة ما بعد الذروة، ويستعدّ بصمت لزمن الدفاع الأخير أو الانهيار.
ويرى الباحث اللبناني في شؤون التنظيمات المسلحة، كامل نصّار، أن ما يشهده حزب الله في الأسابيع الأخيرة يمكن تصنيفه كـ"استجابة متأخرة لاختلال متصاعد داخل البنية التنظيمية".
ويشرح نصّار خلال حديثه لـ"إرم نيوز" أن الحزب بدأ منذ أواخر الصيف يتعامل مع مستويين من الضغط المتداخل؛ الأول مالي تنظيمي يتجلى في اضطرار بعض الوحدات إلى تقليص نفقاتها التشغيلية، وإيقاف بعض النشاطات التعبوية التي كانت تُستخدم في عمليات التجنيد أو الإسناد اللوجستي. أما الثاني فهو اجتماعي–مناطقي، يتصل بتنامي الاستياء الصامت داخل بيئته، وخصوصاً في القرى البقاعية التي تعاني من انقطاع شبه تام في الخدمات الأساسية.
ويشير نصّار إلى أن "إشارات التعب داخل الجسم التنظيمي لم تعد خافية، من تأخر المخصصات إلى تباطؤ الاستجابة في حالات التعبئة، حتى على مستوى الحضور البشري في المجالس أو الدوائر المغلقة".
ويضيف أن القيادات الوسيطة في الحزب باتت تواجه صعوبة في ضبط الخطاب القاعدي، خصوصاً مع غياب ما كان يُعرف بـ"اللحظة التعبوية الجامعة" التي شكّلتها في السابق جبهتا سوريا وفلسطين.
ويرجّح نصّار أن قيادة الحزب قرّرت الدخول في مرحلة "التحصين الصامت" بهدف احتواء هذا الاهتزاز الداخلي، وتجنب اختبار صعب مع أي جهة خارجية في هذا التوقيت الإقليمي المعقد.
وأضاف: "ما نراه هو خشية من أن تنفجر الشروخ الداخلية في لحظة لا يملك الحزب أدوات معالجتها العلنية".
ويضيف نصّار أن الحزب، وعلى خلاف عادته في التعامل مع التحديات الداخلية، يتجنّب اليوم الخطاب التعبوي المرتفع حتى في البيئات الضيقة، ويعتمد بدلاً منه نغمة تنظيمية مغلقة تركز على "الضبط وإعادة التماسك"؛ ما يؤشر إلى نقطة ضعف معنوية غير معهودة في بنيته التنظيمية.
ويتابع: "حزب الله لم يعد قادراً على استدعاء الرمزية القتالية كوسيلة للتعبئة؛ لأن الواقع المعيشي بات أكثر إلحاحاً من أي سردية مقاومة"، مشيراً إلى أن الحزب بدأ يفقد ورقة "المعركة الكبرى" التي لطالما استخدمها كرافعة لامتصاص التململ الداخلي.
ويلفت نصّار إلى أن أحد أبرز مؤشرات الإنهاك هو انخفاض الحضور الطوعي في الأنشطة التعبوية غير الملزمة، مثل دورات الكوادر الثقافية، والأنشطة الجماهيرية المحدودة التي كانت تُستخدم سابقاً كوسيلة اختبار لدرجة الانضباط.
ويؤكد نصّار أن الوضع الحالي لا يعني تفككاً تنظيمياً، لكنّه يعكس نقطة مفصلية في العلاقة بين القيادة والقاعدة، حيث يُعاد تعريف الولاء على أساس "الضرورة والنجاة"، وليس الحماسة والتعبئة.
ويقول: "الحزب قد لا يعاني بالضرورة من تمرد داخلي واسع أو معلن، لكنه يواجه للمرة الأولى برودة داخل بيئته تتعامل معه كطرف مستقر، وهذه سابقة لم يعتدها منذ تأسيسه".
من جانبه، يؤكد الباحث الألماني في مركز أبحاث النزاعات والسيادة في برلين، جوليان فوس، أن حزب الله لم يعد اليوم فاعلاً مستقلاً في المعادلة الإقليمية، بل أصبح حلقة متقدمة من شبكة دفاع إيرانية مرتبكة تبحث عن توازن بين بقائها في الجبهات وخسارتها لمصادر التمويل والاستقرار السياسي.
وبحسب حديث فوس لـ"إرم نيوز" فإن طهران لم تعد تعتبر لبنان ساحة أولى للتحرك الاستراتيجي كما في العقد الماضي، بل باتت تركز ثقلها على الجبهات القابلة للتفاوض (مثل اليمن)، وتُبقي على حزب الله في موقع "الحارس الثابت" وليس "الذراع الضاربة".
ويضيف: "إيران لم تسحب دعمها العسكري للحزب، لكنها لم تعد تستثمر سياسياً في تحريكه، وإنما تُبقيه في وضعية الاستعداد لتوازن الردع".
ويشير فوس إلى أن الحزب لم يعد يملك هامش المبادرة الميدانية كما كان في السنوات السابقة، بل بات يتصرّف ضمن حدود صمت محسوب، هدفه تجنّب أي توتير يُحرج طهران في لحظات تفاوض حساسة، سواء في ملفها النووي أو في إدارة التوازنات مع موسكو وبكين.
ويلفت إلى أن هذا السلوك نتيجة تعليمات مركزية غير مُعلنة تضع سقفاً منخفضاً لأي تحرك، كما يرى أن هذا التموضع الجديد لحزب الله يُعيد إنتاجه كأداة دفاعية صامتة داخل شبكة النفوذ الإيراني، وليس كمكوّن مبادر، ويشبّهه بما سمّاه "الحزام الرمادي حول الأصول الإيرانية"، أي تلك القوى التي لا تتحرك إلا إذا فُتحت جبهات أخرى أولاً.
ويقول فوس إن ضعف الدور الإقليمي لحزب الله يُقابله أيضاً تآكل صورته النمطية داخل بعض الأوساط الغربية، حيث لم يعد يُقرأ كطرف مهيمن على القرار اللبناني، بقدر ما بات يُنظر إليه كتنظيم مسلح تحت الضغط، يُحافظ على وجوده عبر حسابات الردع والتكيف.
ويرى فوس أن التبدّل في حركة الحزب داخل لبنان يُقرأ ضمن إطار فقدان الدينامية السياسية الإقليمية التي كانت تعطي للحزب دوراً يتجاوز الجغرافيا اللبنانية.
ويوضح أن "المزاج الدولي تغير، والأسواق الإيرانية تحت ضغط العقوبات، وملف المفاوضات النووية أصبح أكثر تقلباً وسوءاً بالنسبة لطهران، وهو ما فرض على إيران ترشيق أدواتها واستخدام تكتيك التثبيت وليس الضغط المباشر".
ويختم فوس بالقول: "ما نشهده اليوم هو بداية مرحلة يخرج فيها حزب الله من وظيفة التمدد الإيراني، ليدخل في وظيفة إدارة التراجع بأقل خسائر ممكنة".