توفي روبرت فيسك، أكثر الصحفيين البريطانيين خبرة بشؤون الشرق الأوسط، وفي نفسه أن يزور اليمن ويغطي حربها؛ فهو صاحب مقولة إن الشرق الأوسط الجديد سيعاد بناؤه انطلاقا من اليمن التي وصفها أيضا بأنها أشد ساحات القتال في العالم خطورة.
4 عقود غطى فيها كل حروب المنطقة
على مدى أربعة عقود، أمضى معظمها في بيروت مراسلا لصحيفة الإندبندنت، غطى روبرت فيسك كل حروب الشرق الأوسط وتحولاته الكبرى، ابتداء من مذبحة صبرا وشاتيلا عام 1982 ومجزرة حماة في نفس السنة، إلى الثورة الإيرانية عام 1989 وأزمة الرهائن في بيروت، إلى الحرب الإيرانية العراقية، مرورا بالحرب الأهلية اللبنانية وحرب الخليح 1991، إلى الحرب الأفغانية والاحتلال الأمريكي للعراق 2003، وصولا إلى الحرب السورية.
..وفي الخطوط الأمامية
ولأنه من السوية الإعلامية النادرة التي تؤمن بالتغطية الصحفية من الخطوط الأمامية للجبهة، فقد كانت زوجته ينلوفيرا بازيرا، تودعه في كل مرة يغادر فيها، وكأنه لن يعود، باحتمال القتل أو الخطف.
أقصى ما كان يفعله، حسب ما كرره في غير مناسبة، هو أنه كان يحجز تذكرة السفر مستخدما اسما وهميا، رفيق فاروقي، لأنه يعرف أن للتنظيمات الإرهابية عيونا في المطارات.
لكن منيّته وافته يوم الأحد الماضي (عن عمر 74 سنة) في منزله في دبلن، إثر عارض أدخله المستشفى يوم الجمعة الماضي، غادر بعده إلى شقته ليتوفى بسكتة دماغية.
لا يعرف الخوف ولا التردد
حجم التقريظ الذي لقيه روبرت فيسك بعد رحيله استثنائي، وجُلّه تركز على مناقبه المهنية التي جعلته مراسلا ومحللا خلافيا لكنه مقروء بتوسع.
كريستيان بروتون، مدير عام صحيفة الإندبندنت، وصف فيسك بأنه "بطل" لا يعرف الخوف ولا التردد، وأنه ملتزم بالكشف عن الحقيقة والواقع بأي ثمن، وزاد بأنه "أعظم صحفي في جيله".
رئيس وزراء إيرلندا التي حمل فيسك جنسيتها في وقت متأخر، وصفه بأنه "شجاع مستقل في تقاريره، ولديه فهم عميق لتعقيدات تاريخ وسياسات الشرق الأوسط".
أما الصحفي "سين او غرادي"، فقد وصفه بأنه بعد 40 سنة من معايشة مشاكل ومصائب الشرق الأوسط، وإتقانه اللغة العربية "أضحى كأنه عربي".. وهو توصيف ربما لم يكن ليرضى به فيسك لو كان حيّا؛ ففي تغطياته الصحفية ومقابلاته لِطيف واسع جدًا من الشخصيات في المنطقة، كان ثقيل الوطأة بتهذيب، في عرض المثالب والسلبيات السياسية التي لم يكد يستثني منها بين الشخصيات العربية سوى الرئيسين السوريين حافظ الأسد ونجله بشار، وكذلك أسامة بن لادن والرئيس المصري الأسبق محمد مرسي.
مآخذ الانحياز المسبق
وربما لذلك لم تخلُ الاستذكارات الإعلامية والسياسية لروبرت فسيك خلال الأيام الثلاثة الماضية، من الإشارة إلى أنه اقترف في تغطياته الصحفية للشرق الأوسط مثالب، حسب صحيفة الغارديان البريطانية، ليس أقلها الدفاع عن مجزرة حماة وتبرعه بنفي استخدام النظام السوري للغازات السامة، فضلا عن أنه برر ما فعله تنظيم القاعدة في 11 سبتمبر، واتخذ موقفا بالمعارضة المطلقة لنظام الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي وتذكيره في غير مناسبة بأن "حُكم مصر مسألة خطرة".
الترويج المتبادل بينه وبين بن لادن
ابتدأ روبرت فيسك مهنته الصحفية بجريدة " صنداي إكسبرس" اللندنية ، لينتقل بعدها لصحيفة " التايمز" التي غطى لها اضطرابات إيرلندا، ليغادرها بعد ذلك إلى صحيفة الإندبندنت التي ظل بها حتى وفاته.
شُهرة روبرت فيسك أطلقتها ثلاث مقابلات أجراها مع أسامة بن لادن في تسعينيات القرن الماضي ، ووُصفت لاحقا بأنها كانت "خدمة متبادلة" للرجلين.
وقد أضحى فيسك يوصف بأنه الصحفي الذي اكتشف تنظيم القاعدة، حيث قدم بن لادن على أنه صاحب قضية يستحق الاستماع له.
وقد نشأت بين الرجلين كيميا إيجابية جعلت لفيسك صلة ببن لادن ليطلب منه الإفراج عن أحد الصحفيين المعتقلين لديه.
وفي المقابل أظهرت الوثائق الصادرة عام 2016 عن مكتب مدير الاستخبارات الوطنية الأمريكية أن بن لادن أوصى جماعته بأن يدعو فيسك لإعداد برنامج خاص للاحتفال بالذكرى العاشرة لهجمات 11 سبتمبر.
انتقاد سياسات أمريكا وبريطانيا وإسرائيل
بعض مبعث الجدل الذي اتسمت به تقارير روبرت فيسك ومنحها سعة المقروئية، مردّه إلى أن الرجل مُنسق وشديد الوضوح في انتقاده للمعسكر الانجلو ساكسوني، والإدارات الأمريكية والبريطانية ومعهم إسرائيل.
وهي مواقف أظهرها في كل تغطياته لحروب الشرق الأوسط، ابتداء من مجزرة صبرا وشاتيلا الإسرائيلية، وليس انتهاء بالحرب الأمريكية البريطانية في العراق، حيث كان من أشرس رافضي ذرائع ومبررات تلك الحرب.
ولعل أوضح هذه الأطروحات وأشملها، تلك التي وثّقها روبرت فيسك في كتابه الأشهر الذي نشره في ثلاثة أجزاء عام 2007، تحت عنوان "الحرب الكبرى بذريعة الحضارة: اجتياح الشرق الأوسط"؛ وفيه رصد سياقات شرق أوسطية على امتداد نصف قرن، حمّل فيها الولايات المتحدة والغرب مسؤولية المصائب التي طالت هذه المنطقة وجرى تغطيتها بمسوغات حضارية.
كلاهما؛ المعجبون بشجاعة روبرت فيسك في التغطية الصحفية من الخطوط الأمامية واتساق مواقفه المخدومة بلغة أدبية ثريّة، وهم كثُر، أو الذين يأخذون عليه ترويجه للإسلام السياسي، يتوافقون على أنه موسوعي بدأب وثيق في متابعة شؤون الشرق الأوسط وفرز ألوانه السياسية والدينية والاجتماعية.
وكل ذلك مع ميزة التواضع الذي يجعله عندما يتحدث عن نفسه يتجنب استعمال تعبير "أنا" ويستبدلها باسمه بضمير الغائب.
استخدام نفس الاسم
بياض الصفحة المهنية لروبرت فيسك، وقوة توازنها كأشهر الصحفيين المتخصصين بالشرق الأوسط، أغوَى كما يبدو، بعض العاملين في لندن بهذا المجال، لأن يستخدموا نفس الاسم في التوقيع على تقارير موجهة لقراء المنطقة.