في أعالي جبال الساحل السوري، يلفت النظر صرح تاريخي يمكن أن يُقال عنه إنه يختزل تاريخًا وحضارةً متجذرة في عمق الأرض، حيث بُنيت قلعة صلاح الدين الأيوبي التاريخية، أو ما تُعرف باسم "قلعة صهيون"، أهم قلاع الحقبة الصليبية، والتي تقع شرق مدينة "اللاذقية" على بعد 33 كيلومترًا، شرق منطقة "الحفّة" على بعد 5 كيلومترات.
عند المسير إلى هذه القلعة التي تقع على ما يزيد عن ارتفاع 400 متر عن سطح البحر، عبر ذاك الطريق الجبلي الضيّق والأشجار الشامخة التي تحيط بك من الجانبين، تفوح في الأفق رائحة الأشجار الكثيفة، وكأنها ستار يحمي جدران وأسوار تلك القلعة.
وكلما اقتربنا منها، كلما بدأ الأمر يتحول إلى لوحة سريالية تكشف مساحات واسعة من الغابات الخضراء على امتداد النظر.
حارس القلعة، العم جابر، يقول إن ثمة ارتباطًا بينه وبين تلك القلعة؛ إنها ليست وظيفة فقط، إنما ارتباط في هذه الأرض؛ لأن من يدمن رائحة الطبيعة هنا من الصعب أن يفارق هذه المنطقة.
عند الوصول إلى مدخل القلعة، يمتد النظر إلى أفق بعيد، وكأن الواصل إلى هناك اقترب من السماء وأصبحت الأرض بعيدة عنه، حيث ترى الأشجار على جانبي الطريق؛ ما يجعلك تتخيل الحرس بزيه القديم ورمحه المثبت على الأرض وهو يستقبل الواصلين ويودّع الخارجين.
تقول راما، وهي إحدى السائحات التي زارت القلعة في وقت سابق، إن بهو القلعة الواسع والفسيح، مبهر وجميل، وهناك لوحات جدارية معلّقة تشرح مداخل ومخارج القلعة وتذكر معلومات عن كل ركن فيها باللغتين العربية والإنكليزية، فضلًا عن وجود متجر صغير يبيع أشياء قديمة من وحي التاريخ وبأسعار رمزية للسياح.
وعند التعمق إلى داخل القلعة، دون دليل سياحي، لا يمكن لأحد أن يُكمل وحده؛ لأن الفن المعماري والهندسي لها مُنظَّم بطريقة احترافية، وكل ركن نجد فيه منفذًا يُطل على سفوح الجبال المحيطة بالمنطقة. والأهم، المتحف الموجود داخل القلعة، الذي يضم الكثير من التحف التاريخية المرتبطة بالقلعة.
نايف كوج من تركيا، الذي زار القلعة، أكّد أنه ذُهل لجمال ما رآه، على الرغم من وجود الكثير من المعالم السياحية في تركيا، لكن عندما وصل إلى القلعة اختلط الأمر عليه، إذ لم يعد يعرف ما إذا كان يقبع داخل حكاية وأسطورة، أم أن ما يشاهده حقيقة فعلًا.
وأضاف أن الصور الكثيرة التي التقطها ليست كذِكرى سيحملها معه، وإنما يريد أن يُري أصدقاءه ومعارفه جمال هذه البقعة، وكيف تكشف البحر والوديان من حولها، وأن لكل حجرٍ فيها حكاية، خاصة المسير في الغابات الصنوبرية المحيطة بها.
صرح أثري
تقع القلعة فوق قمة مرتفعة، وتحيط بها الغابات والمناظر الرائعة، وكانت تُسمّى لزمن غير قصير بقلعة صهيون أو السُّون، وأصبحت اليوم تحمل اسم قلعة صلاح الدين الأيوبي، تيمّنًا بذكرى القائد الإسلامي الكردي صلاح الدين الأيوبي. وفي العام 2006م، سُجّلت القلعة على لائحة التراث العالمي إلى جانب قلعة الحصن.
وتقع القلعة فوق قمة صخرية ممتدة طولًا، ومؤطّرة بواديين عميقي الغور يجري فيهما سيلان يجتمعان سويّة تحت قسمها الغربي.
محمد إسماعيل، شاب ينحدر من مدينة اللاذقية، تحدّث لـ "إرم نيوز" عن مسير الغابات الذي سار به مع مجموعة من الشبّان، وعبر مسلكٍ حجريٍّ ضيّق تحيط به أشجار الصنوبر على الجانبين، صعودًا حتى القمّة، دون أي وسائط نقل. وذكر أن كل ما يحتاجه الفرد هو عبوتا ماء، وبعض الطعام، وحقيبة المسير التي تتضمن أدوات التخييم على أطراف القلعة.
وأضاف أن قضاء الليل في محيط القلعة، خصوصًا في أيام الصيف، وشرب الشاي، وإشعال النار، يأخذ أي شخص إلى عوالم أخرى لا نجدها في الحياة العادية.
إنها أكبر القلاع التي بناها الصليبيون مساحة؛ وهي شاهد على الفن العسكري الفرنسي في القرن الثاني عشر، فلا تجد في أي مكان آخر عمارة من ذلك العصر تضاهيها قوّة، ولا إنشاءً يضاهيها كمالًا في حسن التنفيذ.
مرت القلعة في القرون الوسطى بأحداث مهمّة، وهي فنّ من فنون العمارة الصليبية. وحديثًا، تم ترميم بوابة الحَمّام العربي (الغربي)، ورُمّمت بذلك بعض الأبنية، كما استُخرجت بعض الإنشاءات العمرانية الأخرى التي كانت مطمورة، وفق وسائل إعلام.
إنّ قرار زيارة القلعة يتطلّب يوماً كاملاً يبدأ منذ الصباح الباكر، إذ إنّ كلّ ركن فيها يحتاج إلى وقته الخاص للتأمل. وعند مغادرة المكان، لا بدّ من التوقّف أيضاً عند المطاعم الشعبية المحيطة بمنطقة الحفّة، حيث يوجد ما يمكن تسميته بـ "الكورنيش" المطلّ على الجبال، والمجهّز بالمقاعد الحجرية والتنور لتناول الفطائر وشرب الشاي.
وأنت هناك؛ لا تتردد في تجربة كلّ ما تقع عليه عيناك، فالرّحلة في عمق التاريخ تربطك بالأرض وبجذورك. من هذه الأرض مرّ الأجداد، وتركوا لنا إرثهم شاهداً على تاريخٍ أصيل. إنها ليست مجرد قلعة تاريخية؛ بل حكاية عهدٍ ممتدّ، كُتبت فصولها بحروفٍ من ذهب.
