على ضفاف وادي "أزفران"، المحاط بلوحات طبيعية رسمتها غابات أشجار التوت، تطل مدينة "القُليعة" الجزائرية مثل لؤلؤة صقلها التاريخ، حيث تفوح طرقاتها وبناياتها بعطر الحضارة الأندلسية التي هبطت طلائعها الأولى هنا قبل نحو 5 قرون.
ارتبطت لحظة تأسيسها بدموع الطرد والتهجير التي عرفها عرب الأندلس بعد سقوط آخر ممالكهم وهي غرناطة في عام 1492، حيث وجد الكثير منهم أنفسهم بين خيار البقاء مع تغيير هويتهم بالكامل أو الرحيل الفوري.
وجد المهاجرون الذين انتقلوا إلى الضفة الأخرى من البحر المتوسط ضالتهم في تلك الأرض الخصبة التي تقع غرب العاصمة الجزائرية بنحو 26 كيلومترا، فقرروا أن يجعلوا منها نموذجا مصغرا لفردوسهم الأندلسي المفقود، والذي غادروه بقلب تأكله الحسرة ووجدان يحرقه الحنين.
تعود فكرة تأسيسها، بحسب العديد من المراجع التاريخية، إلى القائد العسكري العثماني حسن باشا ابن خير الدين بربروسا الذي وضع اللبنة الأولى في المدينة، وكانت قلعة ذات مهام دفاعية في إطار معاركه مع الإسبان، إبان خضوع بلاد المغرب للعثمانيين.
سرعان ما أطلق الموريسكيون، وهم الاسم التاريخي للمهاجرين من الأندلس، على مدينتهم الوليدة "القُليعة"، وفق عادتهم القديمة في تصغير الأشياء ومنحها شيئا من التدليل.
تعكس منازل المدينة حنينا جارفا إلى العمارة الأندلسية ذات الإبداعات الخلابة والتي تتجلى في الأبواب المقوسة والأسقف المغطاة بأنواع القرميد، فضلا عن هيمنة اللون الأبيض والألوان الفاتحة عموما.
ومن الداخل، تتميز البيوت بقوة الألوان المضيئة والمشغولات الخشبية، إذ حافظ السكان على مر الأجيال على أسرار هويتهم الأندلسية القديمة.
وتعد فنون التطريز وصناعة الأثاث المنزلي من الخيزران، فضلا عن الإرث الموسيقي من الموشحات والعود والربابة، أبرز الموروث الأندلسي وما تتناقله الأجيال على مر القرون في المدينة.