بعيدًا عن العناوين الإخبارية والواقع السياسي القاسي، تقبع رام الله، المدينة التي تنبض بالحياة الليلية، والإبداع الفني، والرغبة العنيدة في عيش الحياة بكل تفاصيلها.
وفي ليالي الخميس الصيفية، تمتلئ شوارع المدينة المرصوفة بالحجارة بالموسيقى، والضحكات، والتجمّعات. كما تعج المطاعم بالزوار؛ من موظفي المنظمات الدولية، إلى الشباب الفلسطينيين، والفنانين، والطلاب.
أما رائحة القهوة العربية، فتمتزج مع كوكتيلات الفاكهة الطازجة، بينما ترى كبار السن يجلسون على كراسٍ موضوعة على الأرصفة، يتبادلون أطراف الحديث.
وتقول إيما، التي تعمل لصالح إحدى المؤسسات الأوروبية في رام الله: "أستمتع بوقتي هنا؛ أصدقائي كُثر، وحين أسافر، أشتاق لهواء رام الله. اعتدت على حياتي هنا.. أعشقها".
في رام الله، مئات المطاعم والمقاهي التي تُقدّم خيارات واسعة، من الأطباق الفلسطينية التقليدية إلى المأكولات العالمية الراقية. ولا تنام المدينة باكرًا؛ إذ يستمر نبض الحياة فيها حتى ساعات متأخرة من الليل.
ومن أشهر الأماكن الشعبية في رام الله، يأتي "الصنوبر"، الذي يجمع بين مطعم ومسبح في جوٍّ محاط بأشجار الصنوبر الشاهقة.
ويقع "الصنوبر" في حيّ عين سمعان، ويُفضَّل الوصول إليه بالسيارة؛ لأنه موجود أسفل وادٍ يبعُد قليلًا عن ضوضاء المدينة.
ويقول أحد زبائن "الصنوبر" الأوفياء: "يفتح الصنوبر أبوابه في الصيف فقط؛ أنتظره من العام إلى العام، حتى أقضي فيه وقتًا ممتعًا وسط الطبيعة الخلابة، محاطًا بالأصدقاء".
لكن رام الله ليست فقط مدينة للسهر؛ بل إنها مدينة تقاوم محو هويتها الثقافية. ففيها حوّل زهران جغب، أحد سكان المدينة، بيت عائلته الذي يعود تاريخه إلى 250 عامًا، إلى متحف في قلب المدينة القديمة يحمل اسم "دار زهران"، حيث يعرض صورًا وأغراضًا من ما قبل العام 1948، ليحكي من خلالها تاريخ المدينة وعائلته.
وفي مواجهة الطفرة العمرانية التي هددت التراث المعماري للمدينة، تعمل مؤسسات مثل "رواق" على ترميم الأبنية التاريخية وحمايتها.
أما روح الإبداع في رام الله فتتجلى في مختلف الفنون؛ من الموسيقى الإلكترونية التجريبية التي ينتجها بعض الفنانين المحليين إلى أعمال التطريز والسيراميك التي تجذب أنظار الكبار والصغار.
وأنصحك بالتجوّل في البلدة القديمة لرام الله، حيث ستستمتع بالسير في الأزقة الحجرية الضيقة، وزيارة المنازل التراثية المُرمّمة.
وللمثقفين، يُعد متحف محمود درويش جزءًا من مجمع ثقافي متكامل تبلغ مساحته نحو 9,000 متر مربع، ويشمل حديقة عامة مطلة على القدس، ومسارح ومرافق متعددة الاستخدامات، بالإضافة إلى ضريح الشاعر الراحل.
والمتحف تأسس رسميًا العام 2012، بمرسوم رئاسي، وهو مشروع غير ربحي تديره مؤسسة محمود درويش بالتعاون مع بلدية رام الله ومنظمة التحرير الفلسطينية.
فيه يمكنك أن تأخذ لمحة عن حياة الشاعر الراحل، كما يمكنك زيارة ضريحه ورؤية مخطوطاته الأصلية، وصوره الشخصية، وقطع رمزية مثل حقيبته الشخصية، وطاولة الزهر، والراديو الذي كان يستمع إليه وقت حصار بيروت.
وفي المتحف، مكتبة إلكترونية تضم مؤلفاته ودواوينه وأدبًا عربيًا آخر.
ويقول أحد العاملين في المكان: "يستقطب المتحف زوارا من داخل فلسطين وخارجها، وبعض الأشخاص يزورون المنطقة بشكل دوري، بسبب الهدوء والطبيعة الخلابة والإطلالة الساحرة، خصوصا وقت الغروب".
واحرص على زيارة ساحة المنارة قلب رام الله النابض، التي تحيط بها المقاهي والمتاجر والسحر التاريخي.
وتمثل تماثيل الأسود الأيقونة وسط المنارة عائلات المدينة المؤسسة، وتعد الساحة نقطة تجمع حيوية للاحتفالات كعيد الفصح للمسيحيين وعيد الأضحى للمسلمين، كما تشهد أحيانا احتجاجات ووقفات تضامنية.
وأنت هناك، لا تتردد في الحصول على كرتين من البوظة الشهية من "ركب"، المتجر المختص بصناعة المثلجات منذ 1941 بنكهات الفراولة والليمون والأكثر تمييزا "الفستق الحلبي".
وفي النهاية، رام الله ليست مجرد نقطة على خريطة فلسطين، بل هي فسحة "أمل" بين صخب الحياة وهدوء المتاحف، بين نبض الموسيقى وصدى القصائد، بين الحاضر المتسارع والتاريخ الراسخ.
فعبر فنجان قهوة ونغمة عود، وصورة على جدار بيت عمره قرن، رام الله لا تدّعي الكمال، لكنها تكتب حكايتها بشجاعة كل يوم.