الكرملين: مشاركة الأوروبيين في مفاوضات أوكرانيا "لا تبشّر بالخير"
قبل أكثر من ربع قرن، كانت فنزويلا توصف في واشنطن بأنها "الحليف الموثوق في أميركا اللاتينية". فقد جمعت البلدين شراكة استراتيجية وثيقة منذ خمسينيات القرن الماضي، تأسست على النفط والديمقراطية ومكافحة الشيوعية. وتلقت القوات المسلحة الفنزويلية دعماً واسعاً من الولايات المتحدة، شمل التدريب والتسليح والتعاون الاستخباري، في وقت كانت فيه واشنطن تعتبر كاراكاس نموذجاً للاستقرار السياسي في المنطقة.
لكن تلك العلاقة، التي بدت راسخة، وفقا لمراقبين، انهارت مع انتخاب الضابط السابق هوغو شافيز رئيساً عام 1998، إذ حمل معه مشروعاً سياسياً واقتصادياً مناهضاً لواشنطن، سرعان ما وضع البلدين على طريق القطيعة.
الثورة البوليفارية وتبدّل المحاور
في العودة إلى جذور العداء المستفحل، تفيد تقارير غربية بأن الأمر بدأ حينما قدم هوغو شافيز مشروعه المعروف بـ"الثورة البوليفارية" بوصفه بديلاً للنظام الليبرالي، داعياً إلى اشتراكية ذات طابع قومي، واستقلال اقتصادي وسياسي عن "الهيمنة الأمريكية". ومع توليه السلطة، أعاد رسم خريطة تحالفات بلاده، فوطّد علاقاته مع كوبا وروسيا والصين وإيران، ودعا إلى عالم متعدد الأقطاب.
في التوازي، بدأ شافيز في تقليص الاعتماد على الولايات المتحدة، فأوقف التعاون العسكري والاستخباري، وأغلق الباب أمام المستشارين الأمريكيين الذين عملوا في بلاده لعقود. وجاءت الإشارة الرمزية الكبرى، وفقا للمراقبين، في عام 2001 حين أمر بإخلاء البعثة العسكرية الأمريكية من مقرها في فويرتي تيونا، المقر العسكري الأهم في فنزويلا.
الانقلاب والقطيعة
بلغ التوتر ذروته في نيسان/ أبريل 2002 عندما أطاح انقلاب مؤقت بشافيز، وسارعت واشنطن إلى الاعتراف بالحكومة الجديدة قبل أن يعود إلى الحكم بعد يومين فقط. ومنذ ذلك التاريخ، اتهم شافيز الإدارة الأمريكية بالتآمر على نظامه، فطرد موظفي إدارة مكافحة المخدرات (DEA) وأنهى أي تعاون أمني. وردت واشنطن عام 2006 بفرض حظر شامل على تصدير الأسلحة والمعدات العسكرية إلى فنزويلا، لتبدأ مرحلة جديدة من العداء الصريح، فاتجه شافيز بعد ذلك إلى شراء الأسلحة الروسية، وأبرم اتفاقيات دفاعية مع موسكو وبكين، لتتحول فنزويلا من حليف أمريكي إلى شريك استراتيجي لمنافسي واشنطن.
إرث شافيز في عهد مادورو
عندما توفي شافيز عام 2013، ورث نيكولاس مادورو السلطة والمشروع ذاته، لكنّه واجه انهياراً اقتصادياً حاداً مع تراجع أسعار النفط وسوء الإدارة والعقوبات الأمريكية المتتالية. أدت الأزمة إلى تضخم مفرط وانهيار الخدمات العامة وهجرة ملايين الفنزويليين.
تفيد التقارير أنه في عهد مادورو، اتسع الشرخ مع الولايات المتحدة أكثر. فإدارة دونالد ترامب تبنت سياسة تقوم على الضغط الأقصى، دعمت بموجبها زعيم المعارضة خوان غوايدو واعترفت به رئيساً مؤقتاً، وفرضت عقوبات قاسية على قطاع النفط والمسؤولين الحكوميين. كما أعلنت واشنطن أن تغيير النظام أصبح هدفاً معلناً، بينما اتهم مادورو الولايات المتحدة بمحاولة "خنق بلاده اقتصادياً لإسقاط الثورة".
من الحرب الباردة إلى حرب النفوذ
لم تعد فنزويلا منذ ذلك الحين على أجندة التعاون الأمريكي، بل على قائمة "الأنظمة المعادية" إلى جانب كوبا ونيكاراغوا. تراجعت برامج التدريب والمساعدات العسكرية، وأصبح النفوذ الروسي والصيني في كاراكاس جزءاً من التنافس الدولي على النفوذ في أمريكا اللاتينية.
وبحلول عام 2025، تحوّل التوتر إلى مواجهة بحرية في البحر الكاريبي، بعدما استهدفت القوات الأمريكية سفينة اتهمتها بنقل مخدرات إلى الولايات المتحدة، فقُتل أحد عشر شخصاً. وصفت كاراكاس الحادثة بأنها "عدوان سافر على السيادة الوطنية"، وأطلقت طائراتها في استعراض قوة، بينما أعلن الرئيس ترامب مكافأة مالية لمن يدلي بمعلومات تؤدي إلى اعتقال مادورو.
مواجهة بلا أفق
اليوم، وبعد أكثر من عقدين على صعود شافيز، تبدو العلاقات بين واشنطن وكاراكاس عند نقطة اللاعودة. فالعقوبات لم تُسقط النظام، والانهيار الاقتصادي لم يُرغم مادورو على التنازل. في المقابل، ترى الولايات المتحدة أن أي تسوية مع القيادة الفنزويلية تمثل "شرعنة للاستبداد".
وبينما تواصل روسيا والصين تعميق حضورهما في البلاد، تحافظ واشنطن على سياسة الضغط والعزل، فيما يخشى المراقبون أن يؤدي التصعيد المتبادل إلى مواجهة أوسع في منطقة الكاريبي.
واليوم؛ انتقلت العلاقة بين البلدين من شراكة استراتيجية إلى خصومة أيديولوجية، ومن تحالف أمني إلى صراع نفوذ مفتوح، في واحدة من أكثر التحولات الجذرية التي شهدتها العلاقات الأمريكية في أمريكا اللاتينية خلال العقود الأخيرة.
ويعكس الملف الفنزويلي مأزق السياسة الأمريكية في أمريكا اللاتينية، حيث لم تعد العقوبات ولا العزلة كافيتين لاستعادة النفوذ المفقود أمام تمدد موسكو وبكين. وبينما تواصل واشنطن الرهان على الضغط، تراهن كاراكاس على الزمن وحلفائها الجدد، لتبقى فنزويلا — التي كانت يوماً حليفاً استراتيجياً — عنواناً دائماً لخصومة مريرة بين واشنطن وخصومها في الجنوب.