سلّط تقرير نشرته صحيفة "نيويورك تايمز" الضوء على سيرة دميتري نيكولايفيتش كوزاك، أحد أقدم المقرّبين من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي تحوّل، بصمت وحذر، إلى أبرز صوت معارض للحرب على أوكرانيا داخل الدائرة الضيقة للحكم الروسي.
وعلى مدى 3 عقود، كان كوزاك رجل الدولة الهادئ، المحامي والإداري الصارم، الذي رافق بوتين منذ تسعينيات القرن الماضي، حين عملا معًا في بلدية سان بطرسبرغ.
وتولّى لاحقًا مهام حساسة شملت إدارة حملات انتخابية، والإشراف على أولمبياد سوتشي الشتوي عام 2014، وملف دمج شبه جزيرة القرم بعد ضمّها. غير أن هذا المسار الطويل من الثقة والنفوذ وصل إلى نقطة انكسار مع اندلاع الحرب الروسية على أوكرانيا.
ووفق مصادر مقرّبة من كوزاك، يروي تقرير "نيويورك تايمز" أن الرجل أبدى، قبل بدء الحرب في فبراير/شباط 2022، اعتراضات واضحة على الخيار العسكري.
وقاد كوزاك مفاوضات شاقة مع الجانب الأوكراني بشأن النزاع في شرق البلاد، وشارك في محادثات استمرت 8 ساعات في باريس مطلع عام 2022، قُدّمت حينها بوصفها "إشارة إيجابية" لاحتمال التوصل إلى حل دبلوماسي.
ورأى مسؤولون غربيون وأوكرانيون سابقون أن كوزاك كان صادقًا في مسعاه، لا يناور لكسب الوقت.
مع تصاعد الحشود العسكرية الروسية على حدود أوكرانيا، أعدّ كوزاك مذكرة داخلية مطوّلة حذّر فيها من كلفة الحرب السياسية والاقتصادية والجيوسياسية.
وتضمنت المذكرة توقعات بدت لاحقًا دقيقة، أبرزها احتمال انضمام فنلندا والسويد إلى حلف شمال الأطلسي، وما يعنيه ذلك من تدهور استراتيجي لموقع روسيا.
وبلغ التوتر ذروته في اجتماع مجلس الأمن الروسي في 21 فبراير/شباط 2022، قبل أيام من بدء الحرب. وفي ذلك الاجتماع المتلفز، اصطف كبار المسؤولين خلف بوتين مؤيدين خطوته، فيما بدا كوزاك وحده متردّدًا، بل معارضًا.
وفي جزء غير معلن من الاجتماع، قال إن الأوكرانيين سيقاومون، وإن العقوبات ستكون قاسية، وإن روسيا ستدفع ثمنًا طويل الأمد على الساحة الدولية.
وبعد أن أُخليت القاعة، واجه بوتين كوزاك مباشرة وسأله عن سبب اعتراضه، ولم يتراجع الرجل.
وبعد بدء العمليات العسكرية، انتشرت روايات تفيد بأن كوزاك طُلب منه دعوة كييف إلى الاستسلام، لكنه، بحسب مقربين منه، رفض هذا الدور، وأصرّ على أن أي تفاوض لا يمكن أن يتم دون وضوح في أهداف الحرب.
وفي مكالمة متوترة مع بوتين، قال كوزاك إنه مستعد للاعتقال أو حتى القتل بسبب رفضه تنفيذ أوامر يراها غير مفهومة أو غير مبرّرة.
وكانت تلك، وفق التقرير، لحظة نادرة من العصيان الصريح داخل نظام لا يتسامح عادةً مع الخلاف.
لم تتوقف محاولات كوزاك عند الاعتراض النظري، ففي الأيام الأولى للحرب شارك في مفاوضات غير مباشرة لبحث وقف إطلاق النار، تضمنت أفكارًا عن ضمانات أمنية لأوكرانيا مقابل انسحاب روسي واسع، باستثناء القرم ودونباس.
غير أن هذه المساعي أغضبت بوتين، الذي سرعان ما سحب الملف من يد كوزاك وأسنده إلى شخصيات أخرى أكثر انسجامًا مع خطه المتشدد.
ورغم فقدانه النفوذ في ملف أوكرانيا، لم يُقصَ كوزاك بالكامل، إذ احتفظ بمكتبه في الإدارة الرئاسية، وواصل استقبال مبعوثين غربيين عبر قنوات خلفية، باحثًا عن مخارج سياسية للحرب.
وفي مذكرة لاحقة صادمة لكثيرين في محيطه، اقترح على بوتين وقف الحرب والعودة إلى التفاوض، بل والذهاب أبعد من ذلك عبر إطلاق إصلاحات داخلية تشمل تعزيز استقلال القضاء وتقليص نفوذ الأجهزة الأمنية، في طرح وُصف داخل الكرملين بأنه "شبه محرّم".
لكن كوزاك، على الرغم من مواقفه، لم يخرج إلى العلن، بل التزم الصمت محافظًا على خيط رفيع من الولاء الشكلي للرئيس.
وبدا أن بوتين، بدوره، لم يشأ كسر هذا الخيط بالكامل، إذ سمح لكوزاك بالسفر للعلاج في الخارج، وقبل استقالته في سبتمبر/أيلول 2025، وهي خطوة نادرة في نظام يفضّل إبقاء المسؤولين السابقين داخل مظلته.
واليوم، تبدو سيرة دميتري كوزاك مثالًا على التناقض داخل النخبة الروسية: رجل دولة عمل طويلًا في خدمة نظام مركزي صارم، ثم وجد نفسه أمام حرب كسرت قناعاته وحدود صمته.
وسيبقى إرثه ملتبسًا، مرتبطًا ببوتين، لكنه يظل، كما يصفه مراقبون، "مؤشرًا" على أن الاعتراض، وإن كان خافتًا، موجود حتى في قلب السلطة الروسية.