قال خبراء في الشأن الفرنسي إن رئيس الوزراء الجديد، سيباستيان لوكورنو، يحاول الموازنة بين بناء فريق حكومي قوي والحفاظ على استقرار سياسي هش في وقت حساس.
وأضافوا أن استراتيجية لوكورنو القائمة على الغموض والانتظار قد تنعكس سلبًا مع اقتراب موجة الاحتجاجات الاجتماعية المقررة في 18 سبتمبر/أيلول الجاري.
وبحسب الخبراء، فإن المشهد الحالي في فرنسا يعكس عمق الانقسام السياسي، في ظل شد وجذب بين اليسار واليمين، وتنافس حاد على موقع المعارضة الرئيسية في مواجهة الحكومة.
ويواجه رئيس الوزراء الفرنسي الجديد معضلة صعبة في اختيار أعضاء حكومته المقبلة، إذ يتعيّن عليه الموازنة بين إعادة تدوير بعض وزراء حكومة فرانسوا بايرو السابقة، وبين إدخال وجوه جديدة، غير أن إعلان التشكيلة قد يتأخر بسبب المشاورات السياسية والاجتماعية المتواصلة، إلى جانب ضغوط الأحداث الدولية، وفق صحيفة "ليبراسيون" الفرنسية.
ويعرف لوكورنو بـ"الصامت الكبير"، إذ يتجنب كشف نواياه لا للنقابات ولا للأحزاب التي يستقبلها، ولا حتى لوزراء الحكومة السابقة الذين يتواصلون معه يوميًّا عبر الرسائل، لكنهم لا يحصلون على إجابات واضحة بشأن مستقبلهم.
وكل ما أعلن عنه لوكورنو هو رغبته في تشكيل حكومة "مُصغرة تضم وزراء أقوياء"، على غرار ما حاول أسلافه فعله بدرجات متفاوتة من النجاح.
وفي 11 سبتمبر/أيلول الجاري، وجه مدير ديوان رئيس الوزراء فيليب غوستين، رسالة مقتضبة إلى الفرق الوزارية المنتهية ولايتها، جاء فيها: "حافظوا على الصمت".
وفي الوقت ذاته، يستقبل لوكورنو قادة المعارضة، من اليسار إلى التجمع الوطني، باستثناء حزب "فرنسا الأبية" (LFI) الذي رفض الدعوة.
وقد سبق أن قدّم لوكورنو تنازلات، مثل التخلي عن مقترح إلغاء يومي عطلة، والتعهد بعدم إعادة فتح ملف التقاعد، ما يعكس محاولة لامتصاص غضب الشارع.
لكن، وبحسب الاشتراكيين، فإن "أي تفاوض مع لوكورنو غير ممكن ما لم يقدم تنازلات واضحة وصريحة".
من جهتها، صرحت النائبة اليسارية المتشددة، ماتيلد بانو، بأن "الحزب الاشتراكي بصدد تشكيل جبهة مضادة لحزب فرنسا الأبية، جبهة جمهورية تمتد من اليسار إلى اليمين مرورًا بحزب النهضة الرئاسي في فرنسا".
وأضافت أنه "سيكون هناك مرشح في كل دائرة انتخابية يحمل برنامج القطيعة الذي يدافع عنه حزب الجبهة الشعبية الجديدة".
من جانبه، قال أستاذ العلوم السياسية الفرنسي المتخصص في الأحزاب اليمينية، البروفيسور جان -إيف كامو، إن لوكورنو يواجه معضلة "إدارة الوقت السياسي"، إذ إن الغموض قد يمنحه مساحة للمناورة، لكنه في المقابل يضعف ثقة حلفائه ويثير قلق الشارع.
وأضاف كامو، في تصريح لـ"إرم نيوز"، أن "اليسار المشتت بين الاشتراكيين وحزب فرنسا المتمردة (يسار راديكالي) يعيش أزمة قيادة، وهو ما يمنح الحكومة فرصة للتنفس، لكن استمرار الغموض قد يوحّد المعارضة ضده بدل أن يفرقها".
بدورها، قالت أستاذة القانون في جامعة باريس 1 بانتيون-سوربون، الدكتورة ماري-آن كوهينديت، إن تزامن تشكيل الحكومة مع الدعوات لإضراب 18 سبتمبر/أيلول يجعل الوضع أكثر حساسية.
وأضافت كوهينديت، في تصريح لـ"إرم نيوز"، أن "لوكورنو يدرك أن أي خطأ في اختيار الوزراء أو تقديم تنازلات ضعيفة سيقرأ على أنه رضوخ للشارع أو فشل في فرض السلطة، ما قد يؤدي إلى انفجار سياسي على غرار ما حدث في أزمة التقاعد عام 2023".
وأشارت إلى أنه من الناحية القانونية فإنه إن لم يستطع لوكورنو تشكيل الحكومة والمصادقة عليها وتمرير الميزانية قبل 7 أكتوبر/تشرين الأول المقبل، فإنه على الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حل البرلمان، ولن يحدث ذلك قبل عام 2026.
وترى الباحثة في الحركات الاجتماعية، التاريخ السياسي المعاصر بمعهد الدراسات السياسية في باريس، هيلين هاتزفيلد، أن الحكومة الفرنسية المقبلة قد تكون بمثابة "اختبار ثقة" بين لوكورنو ومؤسسات الدولة.
وأضافت هاتزفيلد، في تصريح لـ"إرم نيوز"، أن "إصرار لوكورنو على حكومة مصغّرة ذات وزراء أقوياء يعكس رغبة في تعزيز الكفاءة على حساب التوازنات السياسية التقليدية، لكن ذلك قد يخلق عداءات مع الأحزاب التي تنتظر حصصها"، موضحة أن "المعضلة الأساسية ليست في الأسماء بل في القدرة على تمرير السياسات وسط برلمان منقسم وشارع يغلي".
وقالت إن "تشكيل حكومة لوكورنو ليس مجرد استحقاق إداري، بل اختبار سياسي شامل، يحدد مستقبل التوازن بين الشارع والمؤسسات"، لافتة إلى أن "الغموض قد يكون تكتيكًا قصير الأمد، لكنه إذا طال، فقد يتحول إلى نقطة ضعف تهدد ليس فقط بقاء الحكومة، بل استقرار النظام السياسي الفرنسي بأسره".