رأى خبراء استراتيجيون، أن طفرة التسليح الذي تعمل عليه بريطانيا لمنظومتها العسكرية لا تقتصر فقط على مواجهة تهديد روسيا لها ولأوروبا، ولكنها خطوة على طريق عودة "الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس"، والتي توارى عنها هذا المسمى تدريجيًّا بعد الحرب العالمية الثانية، عندما استلمت الولايات المتحدة قيادة الغرب.
وبحسب الخبراء في تصريحات لـ"إرم نيوز"، إنه مع انسلاخ الرئيس الجمهوري دونالد ترامب عن "التحالف التاريخي" الذي تمثل في حلف شمال الأطلسي "الناتو" وجدت لندن أن تطوير منظومتها العسكرية بات ضرورة قصوى لتعود إلى عرش النفوذ من خلال حماية أمنها وتصدر مقعد الدفاع عن أوروبا أمام الدب الروسي.
تغييرات جوهرية
وكان كشف رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر، مؤخرًا، عن تبني حكومته تغييرات جوهرية لتعزيز قدرات البلاد الدفاعية، لجعل المملكة المتحدة أكثر أمنًا وقوة، موضحًا أنه يتعين الانتقال إلى حالة الجاهزية القتالية، بحيث تصبح القوات المسلحة البريطانية جاهزة دومًا لخوض حرب لردع أي عدوان، وتعهّد بإنهاء تقليص عدد القوات المسلحة وبناء قوة قتالية أكثر تكاملًا وجاهزية من أي وقت مضى.
وقد أعلنت المملكة المتحدة مؤخرًا عن نيتها استثمار 1.5 مليار جنيه إسترليني (ما يعادل 1.8 مليار يورو) لبناء 6 مصانع جديدة لإنتاج الأسلحة والذخائر، وذلك قبل أيام من الكشف عن استراتيجيتها الدفاعية الجديدة.
وفي فبراير/ شباط الماضي، قرر "ستارمر" رفع الإنفاق الدفاعي للمملكة المتحدة إلى 2.5% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2027، مقارنة بـ2.3% حاليًّا، وذلك لمواجهة التحديات الأمنية الجديدة في أوروبا، وسط ضغوط من الولايات المتحدة على شركائها في حلف الناتو لزيادة الإنفاق الدفاعي.
قوة ردع كبرى
ويقول الخبير في الشؤون الأمنية والاستراتيجية الدكتور عبد الرحمن مكاوي، إن عودة بريطانيا إلى التسلح بصفة متسارعة لها أسباب موضوعية، منها الرجوع بقوة إلى قيادة حماية الأمن الأوروبي كدولة نووية، إضافة إلى التعامل مع التهديدات الروسية لهذه الإمبراطورية التي كانت لا تغيب عنها الشمس.
وأوضح مكاوي في تصريح لـ"إرم نيوز"، أن بريطانيا تعيد حساباتها فيما يخص مستويات تسلحها والحال ذاتها بالنسبة للدول الأوروبية الكبرى ومنها فرنسا وألمانيا وإسبانيا، حيث يخصصون ميزانيات ضخمة لبناء قوة ردع كبرى ضد التهديدات الروسية، في وقت لا تشير فيه المفاوضات الخاصة بإنهاء الحرب الأوكرانية إلى إمكانية حدوث انفراجة في هذه الأزمة التي تهدد أمن العالم.
تحوّل الحليف
وبين مكاوي أن سباق بريطانيا نحو التسلح يأتي بعد الاجتماع الأوروبي الأخير بخصوص زيادة الإمكانيات الدفاعية للقارة، وعودة لندن للمشاركة كضلع أساس في أمن أوروبا وسط التهديدات الروسية، في ظل تحول الحليف الأمريكي مع دونالد ترامب، الذي لم يعد موثوقًا فيه من الأوروبيين، ولا سيّما بعد تقاربه مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على مستوى الخطاب والدبلوماسية بشكل ظاهر.
وأردف مكاوي، أن كل هذه المؤشرات تقود بريطانيا بالدرجة الأولى لبناء قوات ردع للرد على التهديدات الروسية التي قد تنطلق بعد ما وقع من ضرب طائرات استراتيجية من طرف أوكرانيا مؤخرًا، وما يدور حول دخولها بشكل أو آخر في المواجهة، وهو ما يعكس خطواتها السريعة في بناء مصانع لإنتاج السلاح، وفي الوقت ذاته تحديث منظومتها النووية، في ظل ما يتضح من وجود تغير في استراتيجية لندن التي انتهجتها العقود الأخيرة فيما يخص تراجع حضورها العسكري ليكون الذهاب حاليًّا إلى النقيض.
عودة الإمبراطوريات
فيما يرى الخبير في الشؤون الأوروبية فتحي ياسين، أن صراع عودة الإمبراطوريات يتصاعد بشدة بين القوى الدولية الكلاسيكية ذات الماضي الكبير في تقاسم الجغرافيا وعلى أساسها المصالح الاقتصادية والاستراتيجية.
وأضاف ياسين في تصريح لـ"إرم نيوز"، أن صراع عودة الإمبراطوريات تتحكم فيه مسارات قومية بالدرجة الأولى، مشيرًا إلى أن طموح بريطانيا المتوقع في هذا الجانب يعتمد على رغبتها في استغلال عودة الولايات المتحدة مع إدارة ترامب عن فرض قوتها العسكرية الذي سحب البساط من المملكة المتحدة صعودًا من نهاية الحرب العالمية الثانية واعتماد واشنطن شهادة القيادة والتحكم في الغرب على حساب هذا النهج التاريخي لـ"لندن".
ويؤكد ياسين أن أجهزة الاستخبارات تقود هذه العودة لعهد الإمبراطوريات في نسخة جديدة من داخل العواصم الكبرى، مع العلم أنه رغم تراجع بريطانيا عن مكانة القوى العظمى الأولى في العالم في العقود الأخيرة، فإن جهاز استخباراتها المعروف اختصارًا بـ"ام اي -6" هو الأقوى في العالم وما زال فاعلًا رئيسًا دوليًّا، ويجب أن نعلم أن الحرب التي لها جانب كبير في تحديد مستقبل العالم خلال الفترة المقبلة وهي الحرب في أوكرانيا، عبارة عن مواجهة أجهزة استخبارات بالدرجة الأولى، تضع منظومة العمل العسكرية للجيوش.
وكلاء التاج
وأشار ياسين إلى أنه مع نهاية الحرب العالمية الثانية وجدت بريطانيا أن الوجود العسكري عبر قوة الاحتلال مكلف وباهظ ولا يستقيم مع مواجهة الكتلتين الناتجتين عن هذه الحرب، وهي الشرقية المتمثلة في الاتحاد السوفيتي والغربية التي تقودها الولايات المتحدة، واختارت بريطانيا أن يكون نفوذها قائم على الوكلاء في حكم الدول التي تتبع التاج الملكي لتحافظ على مصالحها الاقتصادية والاستراتيجية، ولا سيما أن منظومة التجنيد الخاصة بها وبدول تخضع لها، مثل: أستراليا، ونيوزيلندا وقتئذ، تعرّضها لخسائر كبيرة، لتتحول استراتيجية الأمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس إلى خفض النفقات العسكرية تدريجيًّا، وانتشارها العسكري وشكل التجنيد بها إلى التراجع.
وأردف ياسين أن زيادة القدرات التسليحية في بريطانيا بهذا الشكل بهدف حمايتها من الخطر الروسي الذي يعمل جاهدًا لعودة الإمبراطورية القيصرية في "موديل" جديد، في حين أن لندن تجد أنها تركت قيادة الساحة الأوروبية في خطأ تاريخي تعمل على تداركه مع الانسحاب الأمريكي من التحالف القائم من الحرب العالمية الثانية، ليكون ذلك توجهًا لعودة نفوذ إمبراطوريتها الغائبة عبر قيادة القارة العجوز.